وماذا بعد؟

نشر في 01-03-2023
آخر تحديث 28-02-2023 | 20:09
 د. محمد أمين الميداني

يطرح عدد من المحللين والمراقبين السياسيين، وبعد مرور عام على غزو الاتحاد الروسي لدولة أوكرانيا، سؤالاً صعباً: وماذا بعد؟ وكما أوضحت إحدى الصحافيات الفرنسيات في مقالها قبل يوم من ذكرى مرور عام على هذا الغزو، والمنشور في جريدة «لوموند» الفرنسية وعنوانه: بايدن-بوتين الخوف من التصعيد، بأن هذا السؤال الصعب هو بداية عنوان كتاب صدر حديثاً: ماذا بعد؟ قصص من القرن العشرين، ويتضمن ذكريات السياسية البريطانية (كاترين أشتون)، أول بريطانية تتقلد مسؤولية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي من 2009 إلى 2014، ولعل اختيار صدور الكتاب في بداية هذا الشهر جاء ليذكر أيضاً بما يحدث في أوكرانيا حيث زارت هذه المسؤولة الأوروبية مدينة كييف والتقت بالمسؤولين فيها عام 2014 وحين بدأت المظاهرات والاضطرابات وقتها في هذه المدينة ومدن أوكرانية أخرى، ومما جاء في هذا الكتاب، وتبعاً لما ذكرته الصحافية، فإن المؤلفة بينت أنه في المجال الدبلوماسي، يجب التفكير في الخطوة التالية، ويجب طرح السؤال الصعب: ماذا بعد؟ ويبقى النجاح في المجال الدبلوماسي مرهوناً بحسن الرد على السؤال.

دفع غزو أوكرانيا وبداية ما نراه حرباً أوروبية جديدة، نؤرخ لبدايتها ولا نعرف متى ستتوقف، عدداً كبيراً من السياسيين والمحللين والمراقبين ليس في أوروبا فقط، ولكن في أميركا وفي عالمنا العربي أيضاً لطرح هذا السؤال الصعب، وكل يجتهد على طريقته، وحسب تخصصه ومعلوماته، أو بحكم موقعه السياسي أو الحكومي ليجيب عنه بطريقه أو بأخرى.

ولا بد أن نعيد التذكر هنا بأن لا مبرر لأي غزو أو لأي عملية عسكرية داخل أراضي دولة مجاورة أو قريبة أو بعيدة ولا يجوز احتلال أراضي دولة مستقلة أو انتهاك سيادتها، وإن ما تعارف عليه المجتمع الدولي من أصول وما وضعه من قواعد تتعلق بحسن الجوار واحترام حدود الدول الأخرى وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، يبقى هو الأساس والأصح والأفضل في العلاقات الدولية.

يمكن الآن أن نخمن بعض الأجوبة الكثيرة والمتنوعة رداً على هذا السؤال الصعب، فنقول مثلاً: هل سيتشكل نظام عالمي جديد تؤدي فيه الدول المنتجة للنفط والغاز وبخاصة في الدول العربية دوراً رائداً؟ حيث إنها حرصت منذ بداية الغزو أن تؤدي دوراً متميزاً ومتوازناً، وهل ستتعدد الأقطاب من جديد لتتوزع هذه المرة بين الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها من الدول الأوروبية، وروسيا الاتحادية ومن يتحالف معها، والصين وبعض الدول الآسيوية مثل الهند؟

وتُطرح أسئلة أيضاً على صعيد المنظمات الدولية، وبخاصة في أوروبا، فتستعد مثلاً منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لاستقبال أعضاء جدد مثل: فنلندا والسويد، فالحياد الذي اختارته بعض الدول اصطدم بواقع عسكري وإقليمي جديد يمكن أن يهددها، ويهدد كذلك دولاً أوروبية أخرى، فلم يكن من بدّ إلا الخروج عن الحياد ومحاولة إيجاد مظلة عسكرية للحماية والردع، كما يمهد الاتحاد الأوروبي لاستقبال دول جديدة ويسهل شروط العضوية كما هي الحال مع أوكرانيا في الوقت الذي نرى في هذا الموقف نوعاً من التسرع، وتمحيصاً غير كافٍ لاحترام هذه الشروط، وعدم الأخذ بعين الاعتبار أيضاً طلبات دول أوروبية أخرى تطرق أبواب هذا الاتحاد منذ عقود.

لكن ما يقلق ومن بين الأجوبة التي نقرأها ونسمعها نتيجة هذا الغزو يأتي موضوع تصعيد التسليح وزيادة إنتاج مختلف أنواع الأسلحة وتصديرها، وتبدل مواقف دول مثل ألمانيا واليابان واتجاهها لتخصيص ميزانيات كبيرة بقصد تقوية جيوشها وتسليحها بأحدث الأسلحة وأكثرها تطوراً، كما أن الحديث عن استخدام الأسلحة النووية ولو بشكل محدود قد تكرر أكثر من مرة، ناهيك عن الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها الاتحاد الروسي بتعلق اتفاقية (نيو ستارت)، للحد من الأسلحة النووية.

لا بد أن يؤثر هذا التصعيد العسكري على المعركة المهمة والمصيرية التي بدأتها معظم دول العالم بخصوص عدد من الأولويات الحيوية للدول ولكوكب الأرض مثل: حماية البيئة، ومحاربة التلوث، ومواجهة مشكلة الاحتباس الحراري، والجفاف، ونقص الغذاء والدواء في الدول الفقيرة، ناهيك عن الكوارث الطبيعية من زلال وفيضانات، ففي الوقت الذي يجب أن تتجه فيه الجهود وتخصص الميزانيات لهذه الأولويات وتسخر لها الإمكانات ويتم التركيز على قضايا البيئة والتلوث والانبعاث الحراري، نجدها تخصص للتسليح وزيادة القدرات العسكرية، كما نجد مواقف متناقضة لبعض الدول الأوروبية، حيث شهدنا إعادة فتح مناجم الفحم في ألمانيا مثلا، والعودة إلى بناء المفاعلات النووية كما هو مخطط لها في فرنسا.

ماذا بعد؟ أجوبة هذا السؤال لا تدعو معظمها للتفاؤل، بل تتطلب مزيداً من الحيطة والحذر في الردود والتحاليل والتعامل مع المعارك العسكرية والتطورات السياسية والصناعية والاقتصادية والمالية التي نعيشها منذ عام، ومن المرشح أن تستمر لفترة تطول أو تقتصر وهي لا تصب في آخر المطاف في مصلحة البشرية ولا في مصلحة كوكب الأرض.

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.

back to top