وإنه لجهاد نصر أو استشهاد
ظل يقولها المُلثَّم ويقولها حتى نالها- بإذن الله- شهيداً يا أبا عبيدة.
هو حذيفة سمير عبدالله الكحلوت (أبوإبراهيم)، ذلك الرجل الذي حمل لقب «أبوعبيدة»، الناطق الرسمي باسم كتائب القسَّام، والذي ارتقى شهيداً مع زوجته وأولاده في غارةٍ إسرائيلية غادرة بحي الرمال- غرب غزة. وما أكثر غدرات اليهود!
كان السابع من أكتوبر انفجاراً مدوياً هزَّ عرش الظلم، وأعاد القضية من غياهب النسيان إلى صدر العالم، وأيقظ ضمائر الأحرار، وفضح سادية المُحتل، وإجرامه، ودجله.
وقد كان أبوعبيدة تُرجمان ذلك الانفجار، ناقلاً بطولات مجاهدي غزة في أبهى حللها، حتى أذهل العالم، وأغاظ الأعداء، وأرهب عروشهم. فقد كان أكثر من مجرَّد ناطق؛ كان صوت الأمة الهادر، ونبض فلسطين وقدسها وشعبها، يُخاطب الملايين من قلب المعركة، يُبشِّرهم، ويُصبِّرهم، ويربت على أكتافهم، وسط الدمار والاستهداف المتكرِّر. حتى إن العدو كان يترقب كلماته قبل أبناء شعبه، ينتظر «فصل الخطاب، والخبر اليقين». وقد وصفته كتائب القسَّام في نعيها الرسمي الأخير بـ «الفارس الذي لم ينقطع عن شعبه في أحلك الظروف»، وقالت: «أحبَّه الملايين، وانتظروا إطلالته بشغف، ورأوا في كُوفيته الحمراء أيقونةً لكل أحرار العالم». وأكدت أنه «قاد منظومة إعلام القسَّام بكل اقتدار، وسطَّر مع إخوانه ما رآه الصديق والعدو من أداء مُشرِّف». فما السِّر وراء هذا الصوت الآسر؟
لم يكن صوت «أبوعبيدة» صوتاً إذاعياً جهورياً دافئاً يُطرب الآذان كصوت جهاد الأطرش أو وحيد جلال، اللذين كُنا نستمتع بفخامة حنجرتيهما الذهبيتين، لكن هناك سراً عجيباً جعل الناس يعشقون صوته؟ فهل كان بسبب نبرته الحادة النَّدية؟ أم هي الفصاحة والبيان؟
كان أكثر ما يميز صوت «أبوعبيدة» هو الحق، الذي يُنعش القلوب، ويرويها بالصدق الخالص، في زمنٍ تزاحمت الافتراءات والدَّجل، وتنافست المحطات الكبرى العالمية في تشويه الحقيقة، وتوجيه الرأي العام لمصلحته، كالإعلام العبري وإخوانه. فقد كان ذلك حدثاً لم يسبق له مثيل، أن ينتظر العالم بأسره خِطاب المُلثَّم، ذلك العربي الأصيل الذي يأبى على نفسه أن تُحسب عليه كذبة. فأصبح محل ثقة، حتى لدى الغرب واليهود أنفسهم. فقد صرَّح بعض اليهود بأنهم يُصدِّقون خطاب المقاومة و«أبوعبيدة»، ولا يصدِّقون خِطاب حكومتهم الدَّجالة. وأصبح جمهور العالم لا يثق إلا بكلام المُلثَّم، فكان صوته كالشعاع المُنير الذي يخرج من بين ظُلمات الكذب. فقد نسف هذا الصوت النَّدي الفريد السَّردية الصهيونية، وعمالقة الإعلام الغربي وصُناع الأخبار المضللة.
أعزائي القرَّاء، لم ينقطع صوت المقاومة باستشهاد المُلثَّم حذيفة الكحلوت، فقد ظهر الناطق الجديد باسم كتائب القسَّام، واختار أن يحتفظ باللقب ذاته (أبوعبيدة)، ويتحمَّل هذه الأمانة، في إشارةٍ رمزية إلى استمرارية المقاومة، وأن فلسطين كشجرة الزيتون المثمرة لا ينقطع عطاؤها، وأن صوت المقاومة سيظل عالياً شامخاً محتفظاً بقوة العزيمة وصِدق الرواية رغم أنف الأعداء. وإنه لجهاد نصرٍ أو استشهاد.