معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

نشر في 31-12-2025 | 10:28
آخر تحديث 31-12-2025 | 10:30
 أ. د. محمد حسان الطيان

في عرس علمي عربي بهيج، توَّج سموُّ الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر أعظمَ نتاجٍ معجمي عربي شهده هذا العصر، وهو معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وذلك في يوم الاثنين 2 رجب 1447ه = 22/12/2025م. وقد كرَّم سموُّهُ المجلس العلمي للمعجم، والخبراء والباحثين والمحررين العاملين فيه.

هذا وقد وشارك في صنع المعجم والقيام عليه والنهوض به نحو خمسمئة باحث من علماء العربية والعارفين بها، واشتمل على مُدوَّنةٍ أربَتْ على المليار كلمة (1008.000.000)، تغطي ما يقارب عشرين قرنًا من الزمن (من القرن الخامس قبل الهجرة إلى عصرنا في القرن الخامس عشر الهجري) وهي مأخوذة من نحو عشرة آلاف مصدر (10.000) وبلغت مداخله المعجمية ثلاثمئة ألف مدخل (300.000). وبلغت جذورُها عشرة آلاف جذر (10.000).

وهو نتاج عملٍ دَؤُوبٍ استغرق ثلاثة عشر عامًا (2013 – 2025) وقام على مجلسه العلمي نخبةٌ من علماء العربية، مثَّلوا أقطار الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، يرأسُه المعجمي المعروف أ.د. رمزي البًعْلَبَكِّي من لبنان، ومن مشاهير أعضائه: العلَّامة أ.د. الشاهد البوشيخي وأ.د. عبد القادر الفاسي الفهري، وأ.د. عبد العلي الودغيري من المغرب، وأ. د. عبد السلام المسدِّي من تونس، وأ.د. سهام الفريح من الكويت، وغيرهم من العلماء الأماثل الذين ملؤوا دنيا العربية فضلًا وعلمًا ونفعًا. وقد تشرَّفت بكوني واحدًا من هذه الكوكبة الخَيِّرة، ممثِّلًا لبلدي سورية.

والمعجم التاريخي مشروع نهضويٌّ عظيم، إنه مشروع أمَّة، بل هو ذاكرتها، وذاكرة كلماتها؛ إذ يرصُد تاريخ الكلمة العربية منذ ولادتها، ليتابع نشأتها وتطور دلالاتها ومعانيها عبر التاريخ، اعتمادًا على النصوص والشواهد والسياقات التي وردت فيها، وهو يردُّ الكلمات إلى أصولها تأثيلًا وتأصيلًا، وموازنةً ومقارنةً بنظائرها في اللغات السامية، وينصُّ على ما كان منها مصطلحًا علميًا، في الطب أو الهندسة أو الفيزياء أو الكيمياء... إلخ. وقد رفدته في ذلك خبرة نخبةٍ من المختصين بالمصطلح.

يختلف المعجم التاريخي عن أي معجم نعرفه باستخراجه ألفاظَه ومفرداته من نصوص اللغة أيًّا كانت: قرآنا أو حديثا أو شعرا أو نثرا أو خبرا أو مثلا أو حكمة أو موضوعًا علميًّا أو حوارًا أو قصةً أو مسرحيَّةً...إلخ فالأصل فيه هذه المدوَّنة التي اشتملت على ملايين الكلمات فعمَد الخبراء إلى معالجة كل كلمة فيها بتحديد فرعها، وجمع سياقاتها، وتحديد تاريخها، ووسمها، وتعريفها، وتحديد تاريخ استعمالها، واسم المستعمل، وعرض شاهدها، وتوثيق هذا الشاهد.

ومن هنا تسنَّى لهذا المعجم أن يستدرك مئاتِ الألفاظ على ما نعرفه من معجمات العربية، وأن يستدرك آلاف المعاني على ما ورد فيها من معاني الألفاظ.

ولأن العمل المعجمي عملٌ علميٌّ دقيقٌ، يحتاج إلى الكثير من التحقيق والتدقيق ومعاودة النظر وإمعان الفكر، فقد حرَص القائمون على المعجم أن يتريَّثوا في أمر طباعته الورقية التي يُقَدَّرُ لها أن تبلغ مئةً وثلاثين مجلدًا، وأن ينشروه نشرًا رقْميًّا (إلكترونيًّا) في موقعٍ خُصِّصَ له على الشابكة وهو يحمل اسمه، يستطيع كلُّ مستخدمٍ أن يدخل إليه عَبْر بوابته المفتوحة للجميع، ليتَسَنَّى للباحثين والعلماء أن يستدركوا نقصا إن وُجِد، ويصحِّحوا خطَأً إن حَصَل، ويعاودوا فيه النظر بغيةَ الارتقاء به إلى ما يقارب السلامة، أما الكمال فليس إلا للهِ وحدَه، وكتابِهِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد ورد في الأثر: (من ألَّف فقد اسْتُهدِفَ) فكيف إذا كان التأليف في المعجم؟ وما من معجم في تاريخ العربية بدءًا من (عين) الخليل، وانتهاءً بالوسيط، إلا واستُدرِك عليه، وصُحِّح فيه، وتُكُلِّم في تأليفه، ومع ذلك فقد بقي (العين) عينًا، و(اللسان) لسانًا، و(التاج) تاجًا. فما بالُك بمعجمٍ جمع ما لم يجمعْه معجم، وأتى على ما لم يأتِ عليه مؤلَّف، ولو لم يكن له من حسنةٍ إلا أنه فتح بابًا من النظر، وكان نَواةً لعشرات المعجمات المصطلحية والعلمية.. وقدَّم مئات الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الباحثون واللسانيون والمعجميون والنقاد وطلاب الدراسات العليا في رسائل الماجستر والدكتوراه... لكفاه.

إنه الأرْضٌ العَذَاةُ طابَتْ لغارسِيها.. والـمَرْتَع الخِصْبُ أَمْرَعَ لوارِدِيه.. والمرآةُ الـمُضيئةُ يزيدُها الصَّقْلُ تَوَهُّجًا وحُسْنًا..

رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، إِذَا رَأَى فِيهِ عَيْبًا أَصْلَحَهُ.

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُول: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي.

 

back to top