اليمن خارج منطق اللحظة

نشر في 29-12-2025 | 14:12
آخر تحديث 29-12-2025 | 14:16

اليمن ليس حدثا طارئا في نشرات الأخبار، بل طبقات من الزمن المكدس فوق بعضها، كل طبقة تحمل سردية، وكل سردية تحمل ذاكرة. أرض لم تُكتب مرة واحدة، ولم تُحكم من مركز واحد، ولم تُجمع بقرار إداري كما تُجمع الخرائط في مكاتب القوى الكبرى. من يحاول قراءة اليمن بمنطق اللحظة، يُخطئه كما يُخطئ قراءة المخطوطات القديمة بعين الصحافة اليومية، متجاهلاً طبقات التاريخ المخفية بين الأسطر.

تاريخيا، لم يكن الشمال والجنوب فرعين من جذع واحد بقدر ما كانا مسارين متوازيين، التقيا جغرافيا وافترقا سياسيا وثقافيا. الجنوب ليس حالة يمكن “إشعالها” كما يُشعل النار في قش جاف، بل ذاكرة لم تُحل، وجرحا أُجل، وقضية عادت إلى السطح كلما ظن البعض أن إخمادها ممكن بالإنكار أو التبسيط. من يقرأها اليوم، لا يقرأ مجرد خريطة، بل تاريخ يروي نفسه بنفسه، ونحن دائما مضطرون للرجوع إليه، فماذا يقول التاريخ عندما نستمع له بتمعن؟

قبل القرن التاسع عشر، لم يكن الجنوب اليمني كيانا واحدا ولا تابعا لسلطة مركزية قادمة من صنعاء أو خارجها، بل "فسيفساء من السلطنات والمشيخات، كل واحدة منها كقطعة زجاج ملونة في لوحة الزمن، تشكلت وفق منطق محلي يحكمه البحر والسواحل الشاسعة، التجارة والتحالفات القبلية، وبعض التلال والجزر الداخلية التي احتفظت بخصوصيات محلية. من أبرز هذه الكيانات: سلطنة لحج (العبدلية)، سلطنة القعيطي في حضرموت، السلطنة الكثيرية، وسلطنات المهرة، إضافة إلى مشيخات عدن وأبين وشبوة. كان الحكم وراثيا في الغالب، قائما على شيوخ وسلاطين يوزنون السلطة كما يوزن النساج ألوان خيوطه، يحفظون توازناتهم عبر الأعراف والولاءات القبلية، ويضبطون طرق التجارة البرية والبحرية، لم يكن هناك مفهوم الدولة الحديثة، لكن كان هناك نظام مستقر نسبيا، ومجتمع منفتح بحكم البحر.

في المقابل، عاش الشمال اليمني تجربة مختلفة جذريا. خضع لفترات طويلة للنفوذ العثماني، الذي دخل صنعاء أول مرة في القرن السادس عشر، ثم عاد بقوة في القرن التاسع عشر، قبل أن ينسحب نهائيا عام 1918. تبلور في الشمال نظام إمامي ديني زيدي، مركزي، محافظ، مغلق على الداخل، يرى السلطة امتدادا دينيا أكثر منها عقدا سياسيا. لم يكن الجنوب جزءا من هذا العالم، لا إداريا ولا ثقافيا، ولم يكن خاضعا للعثمانيين إلا بشكل هامشي وعابر. وهنا نشأ الافتراق البنيوي بين شمال جبلي سلطوي، وجنوب ساحلي تعددي، اختلافا يلامس العمق الاجتماعي قبل السياسي، وتباينا في تصور الدولة والدور الدولي. (وهنا لابد من الإشارة إلى أن توصيف الحالتين لا يعني انتقاص في أحدهما، بل هو وصف للحالات لا ناقد فيه).

بدأ الوجود البريطاني في الجنوب عام 1839، عندما سيطرت بريطانيا على ميناء عدن، لا بدافع “احتلال اليمن” فقط، بل لأولوية حماية طريق الهند وتأمين خطوط الملاحة. ومع الزمن، عقدت بريطانيا معاهدات حماية مع معظم السلطنات الجنوبية، تاركة الحكم المحلي قائما، لكنها أدخلت نمطا إداريا جديدا: مؤسسات، قضاء، تعليم، وميناء عالمي جعل عدن مدينة كوزموبوليتانية، تتجاور فيها الأعراق والأديان والأفكار. استمر هذا الوجود البريطاني في الجنوب رغم السيطرة العثمانية على الشمال، لأن الطرفين كانا يتحركان في فضاءين مختلفين لا يتقاطعان إلا نادرا، كمسارات متوازية على لوحة التاريخ تتلاقى أحيانا، لكنها تحتفظ بخصوصيتها.

أما العلاقة بين الشماليين والجنوبيين قبل القرن العشرين، فلم تكن علاقة صراع مستمر بقدر ما كانت علاقة تجاور بارد. لا حروب كبرى، ولا وحدة سياسية، ولا اندماج اجتماعي واسع. كل طرف كان منشغلا بذاته، بنظامه، وبسؤاله الداخلي. الجنوب ينظر إلى الشمال كفضاء مختلف، والشمال يرى الجنوب منطقة خارج منظومته التقليدية.

عندما نال الجنوب استقلاله عام 1967، وأُعلنت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، دخل مسارا سياسيا مغايرا تماما، قائما على الاشتراكية، والحزب الواحد، والدولة المركزية الحديثة. غير أن هذا المسار لم يكن خاليا من التوترات. بلغت الصراعات ذروتها في أحداث يناير 1986، وهي صراع دموي داخل الحزب الاشتراكي الحاكم، نابع من خلافات أيديولوجية وشخصية ومناطقية، أسفر عن مقتل آلاف القيادات، وأضعف الدولة الجنوبية سياسيا وعسكريا، وترك جرحا عميقا في بنيتها، كنسبة غائرة في جلد التاريخ.

في هذا السياق المنهك، جاءت الوحدة اليمنية عام 1990، لا كمحصلة حتمية لتاريخ مشترك، بل كتسوية سياسية بين نظامين مأزومين. أُعلنت الجمهورية اليمنية بقيادة علي عبد الله صالح رئيسا، وعلي سالم البيض نائبا للرئيس. رُفعت شعارات الوحدة، لكن الأساس كان هشا: دمج مؤسسات دون دمج ثقافات سياسية، وجيشين دون عقيدة واحدة، وسرديتين للدولة لم تتصالحا. بعد ثلاث سنوات فقط، انسحب علي سالم البيض من المشهد، واندلعت حرب 1994، التي انتهت بانتصار عسكري للشمال، وتحويل الوحدة إلى واقع قسري. منذ تلك اللحظة، لم يعد الجنوب شريكا، بل طرفا خاضعا لسياسة الأمر الواقع. لم يرضَ الجنوب بذلك، لكنه تكيّف قسرا.

ومع اندلاع الربيع العربي عام 2011، لم تولد الأسئلة من جديد، بل خرجت من مخابئها. لم يكن الربيع مُفجر القضية الجنوبية، بل كاشفها؛ زلزالا لم يصنع الشقوق، لكنه جعلها مرئية. برزت حركات وأسماء جنوبية بدأت بالمطالبة بالحقوق، ثم انتقلت إلى مساءلة مسار الوحدة، قبل أن يصل قطاع واسع إلى سؤال الدولة نفسها: هل كانت الوحدة عقدا أم غلبة؟ شراكة أم إلحاقا؟ لم تكن هذه الأصوات اختراع لحظة، بل صدى مؤجل لقضية أُغلقت بالقوة عام 1994، وظُن أن الصمت كاف لدفنها.

هكذا، فإن الجنوب اليمني ليس تمردا طارئا على دولة مستقرة، بل نتيجة منطقية لتاريخ طويل من التمايز والانقطاع، ووحدة وُلدت قبل أن تكتمل شروطها. ومن يقرأ المشهد اليوم خارج هذا العمق، لا يخطئ الجنوب وحده، بل يسيء فهم اليمن كله، كما يُخطئ من يقرأ كتابا من غلافه الأخير، ثم يدعي أنه فهم الحكاية.

الوحدة، في جوهرها، ليست مستحيلة، لكنها ليست آلية ولا مجانية. لا تُبنى على ركام الذاكرة، ولا على خطاب التخوين، ولا على منطق الغلبة الذي يُنتج دولة بلا شركاء. الوحدة التي تدوم تُصنع عبر قنوات السياسة لا فوهات البنادق، وعبر الاعتراف لا الإنكار، وعبر عقد جديد يفهم تباين المسارات بدل أن يسحقها. عندها فقط، يتحوّل الاختلاف من تهديد إلى طاقة، والخلاف من صدع إلى جسر، ويغدو التاريخ دليلا لا عبئا، والحاضر امتدادا واعيا لماض لم يُمحَ، بل أُعيدت قراءته بجرأة ومسؤولية.

إن أي مقاربة واقعية للجنوب تبدأ من الاعتراف بقضيته وفهم جذورها؛ فالوحدة قد تشكل إطارا لمعالجتها، لكنها لا تنجح حين تُستخدم لنفيها أو تجاهلها.

back to top