
بعد سنّ الخمسين، لا يبدأ العدّ التنازلي كما يتوهم البعض، بل يبدأ الفرز الحقيقي للحياة، ففي هذا العمر لا تبحث عن الضجيج، بل عن الطمأنينة، ولا تركض خلف الإثبات، لأنك تجاوزت مرحلة الشرح لتصبح الراحة أولوية، لا لأنك تعبت فقط، بل لأنك أدركت أن السلام الداخلي أثمن من كل صراع لا يستحق. في الخمسين، يتغيّر معنى النجاح، لم يعد هو ما تملكه، بل ما تستطيع الاستغناء عنه دون ألم لتدرك أن الوقت هو رأس المال الوحيد الذي لا يُعوّض، وأن صحتك ليست أمراً مضموناً بل نعمة تحتاج شكراً يومياً، فتصبح أكثر وعياً بتفاصيل صغيرة كنت تعبرها سابقاً بلا انتباه، جلسة هادئة، صلاة تُؤدّى بخشوع، ذكر يربت على القلب، وفنجان قهوة بلا استعجال. وتبدأ علاقتك بالناس في التحوّل الحقيقي، لم تعد الصداقة قائمة على الكثرة، بل على البقاء، فمن بقي معك في عثراتك، لا في صورك الجميلة، ومن عرفك في لحظات ضعفك ولم ينسحب، هو الصديق الحقيقي. في الخمسين لا يهمك من يعرف اسمك، بل من يعرف داخلك، والأصدقاء الحقيقيون لا يكثرون، لكنهم إن حضروا أغنوا، وإن غابوا تركوا فراغاً لا يُملأ. وهنا تتجلّى حكمة التجربة. لم تعد تخجل من قول “لا”، ولم تعد تخشى خسارة من لا يشبهك، تعلمت أن بعض المعارك لا تُكسب، لأنها لا تستحق القتال أصلاً، وأن الصمت أحياناً أبلغ من ألف رد، وهنا استذكر قول الشاعر (إذا لم يكن صفوُ الودادِ طبيعةً فلا خيرَ في ودٍّ يجيءُ تكلُّفَا)، وفي هذا العمر، يصفو الإيمان ولا يعود علاقة خوف فقط، بل علاقة فهم وقرب، وتدرك أن كل ما مررت به لم يكن عبثاً، وأن الله لم يخذل قلباً أحسن الظن به، حتى إن تأخر الجواب فكن على يقين أن الرضا ليس في تغيّر الأقدار، بل في فهم الحكمة الإلهية بقوله جل شأنه في محكم كتابه ﴿وما بكم من نعمة فمن الله﴾، فتعلم أن الشكر ليس كلمات، بل طمأنينة تعيش بها. بعد الخمسين، تصبح أكثر إنسانية، وأرحم بالناس، وأصدق مع نفسك، وأقل قسوة في الأحكام. وحين يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، لا يعود منشغلاً بما فاته بقدر ما يعتني بما تبقّى. تتبدّل الأولويات، ويهدأ السعي، وتصبح الطمأنينة خياراً واعياً لا انسحاباً، وهناك حيث يصفو القلب ويخفّ الحمل، يدرك المرء أن الله ساقه عبر التجارب ليعلّمه لا ليكسره، وأن أعظم النعم ليست ما نُحصيه، بل ما نعيشه بسلام، فالتصالح مع الذات ليس ختام الطريق، بل بدايته الحقيقية، وأسمى أشكال النضج أن تعيش منسجماً مع نفسك... راضياً، شاكراً، ومطمئناً.