السودان والإمارات: مقاربة من ضفاف النيل لرؤية قرقاش الهادئة
في لحظة تاريخية فارقة، يختلط فيها صخب المعارك بضجيج المزايدات السياسية، تأتي مقالة الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، المعنونة بـ «الإمارات والسودان: قراءة هادئة خارج ضجيج الحملات»، لتقدم مقاربة استراتيجية تتجاوز السجال اللحظي نحو آفاق الحل الجذري.
وبالنسبة لنا في السودان، فإن هذه القراءة لا تمثل مجرد وجهة نظر ديبلوماسية لدولة شقيقة، بل هي تشخيص دقيق لعلةٍ مزمنة أقعدت بلادنا طويلاً، واستشراف لمستقبل لا ينهض إلا على ركائز مدنية صلبة.
لقد وضع الدكتور قرقاش يده على الجرح السوداني الغائر حين أعاد التذكير بأن الأزمة الحالية ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج طبيعي لميراث ثلاثة عقود من «الأدلجة» التي صبغت المؤسسات الوطنية بصبغة أيديولوجية ضيقة. ومن وجهة نظر سودانية واعية، فإن الإشارة إلى «تأدلج المؤسسة العسكرية» في ظل حكم «الإخوان» هي جوهر الحقيقة التي يحاول الكثيرون القفز فوقها.
إن السودان الذي عانى من ازدواجية السلطة وغموض القرار، يدرك اليوم أن استمرار الارتهان لحسابات أيديولوجية عفا عليها الزمن هو ما يعيق الوصول إلى سلام الشجعان.
وتكمن أهمية الرؤية الإماراتية، كما بسطها الدكتور قرقاش، في أنها تنطلق من قراءة واقعية لا تنحاز للأشخاص بل للمبادئ. فاعتبار طرفي النزاع شريكين في المسؤولية عن هذا الخراب ليس «وقوفاً على الحياد» السلبي، بل هو توصيف دقيق لواقع «توازن الضعف» الذي يدفع ثمنه المواطن السوداني البسيط.
إن السودانيين الذين خرجوا في ثوراتهم الشعبية المجيدة ضد الأنظمة العسكرية والشمولية في 1964 و1985 و2019، يجدون أصداء طموحاتهم في دعوة الإمارات الصريحة إلى ضرورة العودة لـ «الحكم المدني المستقل» كونه المخرج الوحيد والمستدام.
إن ما طرحه الدكتور قرقاش حول «بيان الرباعية» في سبتمبر 2025، يمثل خارطة طريق لا غنى عنها؛ فهي تجمع بين الإغاثة الإنسانية العاجلة والمسار السياسي المنضبط زمنياً. وبالنسبة للسودان، الذي يواجه واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، فإن التزام الإمارات بالجانب الإغاثي، بعيداً عن الشعارات، يبرهن على صدق الأخوة.
إننا في السودان نؤمن بأن رفض هذه المبادرات تحت أوهام «الحسم العسكري» هو مقامرة بمستقبل وطن يتفتت، واستمرار في تكرار تجارب «الإنقاذ» الفاشلة التي أورثتنا العزلة والدمار.
ختاماً، إن قراءة الدكتور أنور قرقاش الهادئة تفتح باباً للأمل وسط ركام الحرب؛ فهي تؤكد أن الاستقرار الإقليمي لا يتجزأ، وأن أمن السودان هو من أمن جيرانه وأشقائه. إن سودان المستقبل، الذي نحلم به، هو ذلك الذي يقطع مع الماضي الإخواني الظلامي، ويؤسس لمصالحة وطنية تقوم على العدالة، ويبني دولة مدنية حديثة تنشد الإعمار لا الدمار.
هي دعوة للعقل في زمن العته والجنون، وصرخة حق وسط ضجيج الحملات المحشودة، فهل من مستجيب؟
——-
عبد المنعم سليمان؛ كاتب وصحفي سوداني، ورئيس تحرير نشرة «سودان بيس تراكر».