حين نخشى القادم
«عندما تفقد جماعةٌ ذاكرتها، يصبح أفرادها عاجزين عن معرفة بعضهم بعضاً. كيف يمكن لإنسان أن يعرف الآخر إذا كان قد نسي، أو لم يتعلّم أصلاً، حكاياته وقصصه؟ وكيف لهم أن يعرفوا إن كان ينبغي عليهم أن يثق بعضهم ببعض؟... أناسٌ لا يثقون ولا يتعاونون، بل أكثر من ذلك، يخاف بعضهم من بعض. وهذه محنتنا».
هذه الكلمات لـ Wendell Berry، الشاعر والروائي الأميركي الذي يُستشهَد به كثيراً اليوم، وقد عبّر من خلالها عن رفضه للحداثة الرأسمالية وما أنتجته من تفكك في العلاقات الإنسانية داخل الولايات المتحدة ومجتمعات الغرب. غير أن هذه الكلمات، على اختلاف السياق، تبدو اليوم شديدة الانطباق على واقعنا الراهن، في ظل استفحال نزعات الاستعلاء والغطرسة، كما نراها يومياً في عدد من وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
روح الفتنة والتعصب لم تنشأ من فراغ. هي وليدة ممارسات قديمة في بنية الدولة والمجتمع. لعلّ من أبرزها طريقة توزيع الدوائر الانتخابية وتقسيم المناطق، حين تحولت الجغرافيا من فضاء وطني جامع إلى أوعية فرز وعزل: منطقة لهذه القبيلة، وأخرى لتلك، وثالثة لطائفة بعينها. وبهذا أُنتج نائب لا يمثل الأمة، بقدر ما يمثل منطقته الضيقة، ويُنتظر منه أن يقدّم خدمات الواسطة والمحسوبية لا أن يدافع عن المصلحة العامة.
ولا يقف الأمر عند حدود السكن والانتخابات، فحتى العمل في المواقع القيادية وشبه القيادية داخل عدد من المؤسسات العامة، بات في كثير من الأحيان محكوماً بمنطق التخصيص غير المعلن، حيث تُمنح بعض المناصب لجماعات محددة بوصفها امتيازاً أو «حقاً مكتسباً»، بلا سند حقيقي من القانون أو الكفاءة.
أمام هذا الواقع، يبرز السؤال الجوهري: أين هي الذاكرة الجماعية للبلد؟ ومن أين لنا أن نعرف حكايات بعضنا بعضاً، إذا كنا قد حصرنا أنفسنا داخل هويات جانبية ضيقة، وأقمنا بيننا أسواراً نفسية عالية، كأننا جئنا من كواكب متباعدة لا من وطن واحد؟
عند هذه النقطة، يصبح الخوف مفهوماً. الخوف من الغد، ومن القادم من الأيام، ليس نابعاً من التشاؤم، بل من قراءة واقعية لمسار اجتماعي وسياسي يتغذى على النسيان والانقسام. نعم، لنا كل الحق في أن نخشى القادم، ما دامت الذاكرة المشتركة غائبة، وما دام التعارف والثقة يتآكلان لمصلحة الفرز والعزلة. والخشية، في هذه الحالة، ليست ضعفاً، بل هي إنذار مبكر.