هل سمعتـم بالصِّحافـة النَّشاز؟!

نشر في 22-12-2025
آخر تحديث 21-12-2025 | 18:54
 محمد علي ثامر

قبل أيام كنت أقرأ في كتاب «الصَّحافة الحرام» للكاتب المصـري سامي كمال الدِّين، وبقدر ما هالني ما جاء فيه من سقطات رؤساء، وتوجهات دول، بقدر ما أنني حاولت إسقاطه على الواقع اليمني المعيش، فبدلاً من الإسقاط على حرامية الصَّحافة اكتشفت بُعداً آخر يُمكننا تسميته بـ«الصِّحافة النَّشاز»!

ففي بلدٍ أنهكته الحرب، وتكسَّـرت على أرصفته المعايير الأخلاقية قبل البُنية التَّحتية، لم تعد معركة اليمن مُقتصـرةً على الجبهات العسكرية، بل انتقلت بقوةٍ إلى الجبهة الأخطر «جبهة الوعي»، حيث لم يعد الصِّحافيون حملةً للوعي والتَّنوير، ولم تعدُّ بعض الوسائل الإعلامية تـُمارس دورها الطَّبيعي كـ«سلطةٍ رابعة»، بل تحوَّلت إلى أدوات تشويشٍ وتدميرٍ، تُنتج صحافةً لا تنتمي لصوت المجتمع ولا تعكس نبضه، بل تُغرِّد خارج السِّـرب، وتُعيد تشكيل الواقع وفق أجنداتٍ لا علاقة لها بالحقيقة، ولا بالمصلحة العامَّة للبلد.

فقبل سنواتٍ، كان مصطلح «الصِّحافة الحرام» يُستخدم لوصف صحافيين ووسائل إعلام يـمتهنون التَّضليل والتَّزييف مقابل المال أو الولاء السِّياسـي، ولكنه اليوم لم يعد كافياً، فالمشهد تطوَّر من انحرافٍ أخلاقي إلى ظاهرةٍ أشبه بـ«النَّشاز»، ففي الوقت الذي يحتاج اليمنيون إلى إعلامٍ يُضـيء الطَّريق وسط الرُّكام، وجدوا أنفسهم أمام صحافيون ووسائل ومنصاتٍ تُكرِّس الانقسام، وتُعيد إنتاج خطاب الكراهية، وتغذّي الشَّك بين أبناء المجتمع الواحد، بل وتخلط الأكاذيب بنصف الحقائق، وتُقدَّم الشَّائعات في هيئة تقارير، وتصنع الرَّأي العام في غرفٍ مُغلقةٍ لا علاقة لها بالميدان.

وهنا... لم يعد الخلل محصوراً في ضعف المهنية، بل في غياب البوصلة الوطنية، فجزءٍ من أولئك بات يعمل وفق منطق «القفز بين الولاءات»، يُبدِّل خِطابه بتغيّر المزاج السِّياسـي للجهة المموِّلة، كما أن تأثير هذه الظَّاهرة لم يعدُّ مُقتصـراً على متابعة الأخبار، بل امتدَّ إلى تشكيل السُّلوك الاجتماعي، فالمواطن الذي يتعرَّض يومياً لسيلٍ من الأخبار المُتناقضة، بدأ يفقد ثقته بالجميع، بالصِّحافي، وبالمصدر، وبالحقيقة نفسها، فهو يعيش التَّفاصيل على الأرض، ويُشاهد التَّناقض الصَّارخ بين ما يُنشـر ويُبث وما يُعايشه يومياً، وبالتَّالي فهذا الأمر يخلق بيئةً خصبةً لانتشار الإشاعات، وصناعة الأزمات الوهمية، وتضليل الرَّأي العام، والخطير أنها لا تكتفي بتشويه الوقائع، بل تُعيد هندسة الوعي الجمعي، فتُضخِّم الهامشـي، وتُهمِّش الجوهري، وتحوِّل القضايا الوطنية الكبرى إلى مادّةً للابتزاز السِّياسـي والاقتصادي، ومع الأسف هذا ما نحن واقعون فيه! حيث تشير استطلاعاتٍ أجرتها مراكز بحثية محلية إلى التَّراجع الحادُّ في ثقة اليمنيين بعالم الصِّحافة والإعلام اليمني، حيث باتوا يعتبرونها جزءاً من الأزمة لا وسيلةً لكشفها.

ورغم قتامة المشهد، لاتزال هناك أصواتٌ صحافيةٌ يمنية تحاول أن تحافظ على ما تبقى من شـرف المهنة، تعمل في ظروفٍ قاسية، وتواجه التَّضييق والتَّهديد، لكنها تصـرُّ على أن تكون شاهدةً على الحقيقة لا شـريكةً في دفنها... ليبقى السُّؤال مفتوحاً: هل تستطيع الصَّحافة والإعلام اليمني أن يتحرَّرا من التَّمويل المشـروط، ومن قيود الاصطفاف، ليستعيدا دورهما كضميرٍ حيٍّ للمجتمع؟ أم أن «الصِّحافة النَّشاز» ستظل الصَّوت الأعلى؟! الأيام القادمة كفيلةٌ بالإجابة هُنا، فإما أن يعود القلم إلى موقعه الطَّبيعي كحارسٍ للوعي، أو يظل يُغرِّد خارج السِّـرب اليمني.

* صحافي يمني

back to top