زواج الأقارب والأمراض الوراثية
في مجتمعات الخليج، يُعدّ زواج الأقارب ظاهرة اجتماعية راسخة، ارتبطت تاريخياً بعوامل اجتماعية واقتصادية، من بينها الثقة المتبادلة بين العائلات، وسهولة التوافق، والحفاظ على الممتلكات داخل الأسرة.
كما يسهم الإرث الثقافي والضغط الاجتماعي غير المعلن في إعادة إنتاج هذا النمط عبر الأجيال.
تشير الدراسات السكانية إلى أن نسب زواج الأقارب في دول الخليج لا تزال مرتفعة مقارنةً بالمتوسط العالمي، وإن كانت تتفاوت من دولة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر.
ففي بعض المجتمعات الخليجية، تصل النسبة إلى ما يقارب نصف الزيجات، بينما تشهد مجتمعات أخرى انخفاضاً تدريجياً.
ومع ذلك، تظل المنطقة من أعلى مناطق العالم من حيث معدلات هذا النوع من الزواج.
الارتباط بين زواج الأقارب وارتفاع معدلات الأمراض الوراثية النادرة ليس ارتباطاً اجتماعياً أو ثقافياً، بل هو تفسير علمي بحت.
كثير من هذه الأمراض تُصنّف ضمن الأمراض المتنحية، أي أنها لا تظهر إلا إذا ورث الطفل نسختين غير سليمتين من الجين نفسه.
وعندما يكون الزوجان قريبين، تزداد احتمالية حملهما للطفرات الجينية ذاتها الموروثة من سلف مشترك، مما يرفع فرصة اجتماع هذه الطفرات لدى الأبناء وظهور المرض.
ولهذا السبب، تسجل المجتمعات ذات نسب القرابة العالية معدلات أعلى من بعض الاضطرابات الوراثية النادرة والمعقدة.
خطورة هذه الأمراض لا تكمن فقط في ندرتها، بل في طبيعتها المزمنة وشدّة تأثيرها.
كثير منها يظهر في سن مبكرة، ويصاحبه إعاقة جسدية أو ذهنية، أو اضطرابات استقلابية وعصبية تحتاج إلى متابعة طبية مستمرة مدى الحياة.
هذه الحالات تُلقي بعبء نفسي واجتماعي كبير على الأسرة، حيث تتحول حياة الوالدين إلى رحلة طويلة من الرعاية، والقلق، والتكيّف مع واقع صحي صعب.
اقتصادياً، تمتد تبعات هذه الأمراض إلى ما هو أبعد من كلفة العلاج المباشر.
فالرعاية الصحية طويلة الأمد، والأدوية المتخصصة، وأحياناً العلاجات الحديثة عالية التكلفة، تضع ضغطاً متزايداً على أنظمة الرعاية الصحية.
كما أن فقدان الإنتاجية، وانسحاب أحد الوالدين أو كليهما من سوق العمل لرعاية الطفل، يضيف كلفة غير مرئية لكنها مؤثرة على الاقتصاد والمجتمع.
أما الحل، فلا يكمن في المواجهة، بل في الوعي والتمكين.
فالفحص الطبي الوراثي قبل الزواج، حين يُقدَّم كخدمة داعمة لا كحاجز اجتماعي، يتيح للأزواج معرفة المخاطر واتخاذ قرارات مستنيرة.
ويأتي الإرشاد الوراثي كركيزة أساسية، يشرح الاحتمالات بلغة علمية مبسطة، ويقترح خيارات واقعية تراعي القيم المجتمعية.
كما أن توسيع برامج فحص حديثي الولادة، والاستثمار في الطب الجيني والوقائي، وتضمين التثقيف الوراثي في المناهج التعليمية، كلها خطوات تُحوّل المعرفة إلى وقاية.
في النهاية، لا يتعارض احترام التقاليد مع حماية صحة الأجيال القادمة.
فالوعي لا يُلغي الاختيار، بل يجعله أكثر مسؤولية، ويمنح المجتمع فرصة للانتقال من ردّ الفعل إلى الوقاية، ومن علاج المرض إلى منع حدوثه قدر الإمكان.