الإعلام الرقمي في «عصر ما بعد الحقيقة»: بين التوعية الفعّالة والتضليل المدمر

نشر في 22-12-2025
آخر تحديث 21-12-2025 | 18:21
 محمد الجارالله

أصبح التدفق الهائل والمفرط للمحتوى الإعلامي خطراً لا يقل أثراً وعمقاً عن الأوبئة الصحية أو الأزمات الاقتصادية أو الاضطرابات السياسية، وأصبحت المشكلة في غياب القدرة على التمييز بين المحتوى الصحيح والمضلل. ومع دخول الذكاء الاصطناعي في كل مفاصل الحياة، شهد العالم تحولاً جذرياً في المشهد الإعلامي، وأصبحت «السوشيال ميديا» بيئة شاملة تُنتج وتُستهلك فيها المعرفة بسرعة غير مسبوقة. كما تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تويتر/ إكس، إنستغرام، وتيك توك إلى مصادر المعلومات الرئيسية للملايين، والتي يُقدَّر عدد مستخدميها بنحو ستة مليارات شخص في مختلف دول العالم.

«عصر ما بعد الحقيقة» (Post-Truth Era)

يلخص هذا الواقع بدقة مصطلح «عصر ما بعد الحقيقة» الذي اختارته قواميس أكسفورد كلمة عام 2016، حيث أصبحت الحقائق الموضوعية المدعومة بأدلة علمية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام مقارنة بالعواطف الشخصية والمعتقدات المسبقة والسرديات التي تعزف على وتر الانطباعات العابرة، وما يمكن تسميته بـ “الإنفوميديا” (Infomedia). في هذا الفضاء الجديد، تختلط المعلومة بالترفيه، والخبر الجاد بالرأي السطحي، والتحليل العميق بالعاطفة الجياشة. ولم يعد الخطر محصوراً في غياب المعلومة، بل في غياب القدرة على التمييز. لم تعد الحقيقة هي معيار الانتشار، بل أصبح “الترند” وعدد المشاهدات والإعجابات هو الحكم الأعلى وشهادة الاعتماد. والنتيجة الأخطر هي تفكيك الرابط بين المعلومة والمسؤولية، وتأثير المعلومات المضللة على ملايين المتلقين الذين يتبنون قراراتهم الصحية والاجتماعية والسياسية دون أن يمر ذلك التضليل عبر أي عملية تحقق أو مساءلة.

أخطر وجوه الفوضى: التضليل في المجال الصحي «الإنفوديميك»

يتجلى أخطر وجوه هذه الفوضى في المجال الصحي، حيث يتحول الإعلام الرقمي من أداة توعية محتملة إلى مصدر تضليل وعبء على صحة المجتمع. فمن ذلك انتشر الترويج لوصفات وأنظمة غذائية، بل حتى أدوية علاجية، تفتقر إلى أي أساس علمي أو دراسات سريرية، وتُقدَّم بثقة مفرطة من قبل مؤثرين غير متخصصين، دون النظر إلى عواقب المخاطر الصحية الجسيمة.

كما يُقدَّم العلاج بالأعشاب وما يُعرف بعلاج «الطاقة» كبديل مطلق للطب الحديث المبني على الأدلة، بل ويُصوَّر الأطباء أحياناً باعتبارهم خصوماً لا شركاء، مما يضلل المرضى ويدفع بعضهم إلى تأخير العلاج الفعّال أو رفضه تماماً، بثمن صحي باهظ قد يؤدي إلى تفاقم الأمراض أو الوفاة.

هذا الواقع دفع منظمة الصحة العالمية إلى اعتماد مصطلح «الإنفوديميا» (Infodemic) لوصف الانتشار المفرط للمعلومات الصحيحة والمضللة معاً، بحيث يصبح الوصول إلى الحقيقة أمراً بالغ الصعوبة. الخطر هنا لا يكمن في الكذب الصريح فحسب، بل في تشويش المعرفة، وتساوي الرأي الشخصي مع الدليل، حتى يفقد الناس ثقتهم بالخبرة والمؤسسات.

التآكل الأخلاقي والقيمي: تهديد للبنية الاجتماعية

يمتد الأثر الإعلامي ليطال البنية الأخلاقية والقيمية للمجتمع، مهدداً بتآكلها. ففي قضايا الزواج والطلاق، تُقدَّم العلاقات الإنسانية بمنطق استهلاكي سطحي، تُختزل فيه الأسرة إلى تجربة مؤقتة، ويُروَّج للطلاق كخيار سهل وسريع دون إدراك تبعاته النفسية والاجتماعية على الأفراد والأطفال والمجتمع ككل.

وفي الغش الدراسي، انتشرت منصات تبيع الامتحانات أو تبرر الغش باعتباره “ذكاءً اجتماعياً”، ما يضرب مفهوم الاستحقاق والجهد، ويُنتج أجيالاً تفصل النجاح عن الجهد، والمعرفة عن الأخلاق.

الإعلام السياسي: متى ننتج خوارزميات عربية وإسلامية؟

في المجال السياسي، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى أداة فاعلة في توجيه الرأي العام وصناعة الاستقطاب الحاد. وتُظهر الخوارزميات ميلاً لتفضيل المحتوى الغربي وخصوم العرب، مثل نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الذي قاد مفاصل الإعلام العالمي لعقود طويلة، ونجح في فرض سرديات أحادية. وقد يكون من محاسن السوشيال ميديا أن يحاول الشباب والمثقفون دحض هذه السردية وإظهار التسامح العربي والإسلامي، وكشف ازدواجية المعايير عبر خوارزميات عادلة لتوجيه المحتوى وصناعة التحليل الموضوعي لقضايانا.

بصيرة نبوية وتحذير مبكر

اللافت أن هذا المشهد كان حاضراً في البصيرة النبوية، إذ يقول النبي ﷺ: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»، وهو تحذير بالغ الدقة من نقل المعلومة دون تحقق، حتى دون قصد الكذب. ويقول ﷺ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً، تهوي به في جهنم سبعين خريفاً»، وكأن الحديث توصيف استباقي لعصر تنتشر فيه الكلمة خلال ثوانٍ وتبلغ الآفاق، وتصنع أثراً يتجاوز صاحبها أضعافاً مضاعفة.

منظومة حل شاملة: المعرفة  بين الفوضى والمسؤولية

إن ضبط هذا الفضاء الرقمي لا يتحقق بالمنع أو المصادرة، بل ببناء منظومة مسؤولية متكاملة يشارك فيها الجميع. تبدأ هذه المنظومة بدور الدولة عبر سن تشريعات حديثة تحاسب على نشر التضليل المتعمد، خاصة في المجالات الحساسة كالصحة والأمن، وتعزيز التعليم الرقمي في المناهج لتعليم الطلاب كيفية التحقق من المصادر وتقييم المحتوى، كما يتعين وجود ضوابط دولية لتعزيز آليات التحقق التلقائي (Fact-Checking) ومنع شركات التواصل وتطبيقاتها من فساد الخوارزميات.

ويبرز دور النقابات المهنية والمتخصصين في وضع مدونات أخلاقية صارمة، وتدريب المتخصصين على التواصل الرقمي الفعّال، وإنشاء منصات رسمية موثوقة لنشر المعلومات العلمية. كما أن للمجتمع المدني والمؤسسات التعليمية دوراً حيوياً في حملات التوعية المستمرة ودعم منظمات مستقلة للتحقق من الحقائق.

ويبقى المواطن نفسه هو الركيزة الأساسية في هذه المنظومة، إذ يجب عليه تطوير مهارات التفكير النقدي، والتحقق من المصادر قبل المشاركة، والتوقف عن نقل كل ما يراه دون تفكير، ليصبح اللاعب الرئيسي في تثقيف نفسه.

وختاماً

في عصر ما بعد الحقيقة، تصبح الكلمة أخطر مما نتصور، وأكثر تأثيراً مما نحتمل. وإذا نجحنا في بناء هذه المنظومة الشاملة، فسنحول الإعلام الرقمي من أداة تفكيك إلى قوة بناء حقيقية. والاختيار مسؤوليتنا جميعاً: هل نستخدم الكلمة للتوعية والتقدم، أم نتركها تدمّرنا؟

* وزير الصحة الأسبق

back to top