رقص مع الأفاعي
«في الثمانينيات لم يكن مسموحاً لي، تبعاً لذلك، بالبوح بكلمة سيئة عن معمر القذافي. واليوم أضطر إلى إخفاء رأيي حول (يذكر دولة عربية). ونتيجة لذلك وضعتُ هذه الموضوعات في الدرج، وأغلقتُ عليها بالمفتاح، ثم تخلّصتُ من المفتاح. وبناءً عليه، فإن مبدأ عملي الصحافي هو: أنا أومن بكل ما أكتب، غير أنني لا أكتب كل ما أومن به».
الفقرة السابقة مقتطفة من حوار إعلامي قديم أُجري عام 2017 مع الكاتب اللبناني حازم صاغية. وإعادة الكتابة عنها اليوم، بعد ما يقرب من ثماني سنوات، لا تزال مهمة، بل لعلها أشد إلحاحاً، في ظل التراجع المتواصل لحريات الضمير في عالمنا العربي، وفي العالم عموماً، نحو الأسوأ.
حين كان حازم يكتب في جريدة السفير اللبنانية، التي كان القذافي يدعمها، قال: «أنا أعمل منذ أربعين عاماً لصالح صحف عربية، ولم أعد أشعر بالقيود، بعدما أصبحت هي جزءاً منّي». عبارة كهذه، على ما فيها من صدق جارح، شديدة الخطورة والدلالة، إذ تكشف عن واقع مرير، حين تتحول قيود الفكر إلى جزء أصيل من بنية الفكر ذاته. نحن هنا إزاء حالة من الانهزام الداخلي، فكرٍ ينفي نفسه بنفسه، إذ لا فكر بلا حرية، والعبيد لا يملكون فكراً حتى يكسروا به أغلالهم. ومن ثمّ فإنّ ممارسة التعبير تحت القيود لا تُعد تعبيراً حراً، بل هي ضرب من اللغو. وعلى هذا النحو يغدو رأي الأستاذ حازم، القائل إنه «يؤمن بكل ما يكتب، لكنه لا يكتب كل ما يؤمن به»، رأياً ملتبساً وغير مفهوم ظاهرياً، لكنه في الوقت نفسه يعبّر بصدق عن مأساة الفكر وحريات الضمير في الصحافة العربية.
وفي موضع آخر من الحوار، يذكر حازم أن الهدف الرئيسي من وسائل الإعلام هو الحفاظ على الوضع الاجتماعي والسياسي القائم، لكنه يضيف سبباً ثالثاً لتفاهة هذا الإعلام، يتمثل في «جُبن الطبقة الوسطى». وبطبيعة الحال، فإن النخب المالية وأصحاب السلطة هم من يقمعون الصحافة الناقدة، ويرفضون أي شكل من أشكال التعبير الحر.
فهل نجد العذر لحازم، ولغالبية الكتّاب العرب، حين يكتبون «ليس كل ما يؤمنون به»؟ هل يُعذرون لأن التعبير بالحق قد يعني قطع الأرزاق، أو الإيداع في السجون؟ نعم، نجد كل الأعذار، فالأمر لا يختلف كثيراً عن حكمة الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، حين قال إن حُكْم اليمن يشبه الرقص فوق رؤوس الأفاعي. كذلك، فإن كتابة الكلمة الحرّة لا تعني سوى الرقص مع الأفاعي، ترقص اليوم، ولا تدري متى ستأتي اللدغة.