المحاسبة السياسية في لبنان
غياب المحاسبة في لبنان هو ما تسبَّب في دماره وانهياره، هو ما سمح للعصابات الحاكمة أن تستحكم فيه، وتتمادى في المخالفات والسرقات والانتهاكات والتجاوزات، وتكرارها، من دون أي وازعٍ أو رادع. فغياب المحاسبة هو غياب القضاء، وغياب القانون والعدالة، وغياب الدستور، وهو ظلم لصاحب الحق، ومكافأة للمجرم، وضوء أخضر له ليستمر في السرقة. فلم يكن للفساد أن يستحكم بهذا الشكل في لبنان لولا غياب المحاسبة.
لكن حُب اللبناني لزعيمه، وخوفه من الزعيم الآخر، جعلاه يتخلَّى عن ضميره ومبادئه الأساسية في وضع المسؤولين تحت المحاسبة. ولعل الشرح الأفضل للحالة اللبنانية هو في قول الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي: «إذا أردت أن تغزو شعباً ما، فاصنع لهم عدواً وهمياً يبدو أكثر منك خطراً، ثم كُن المُنقذ لهم من هذا العدو». هذه هي بالضبط اللعبة التي مارسها جميع السياسيين، وتواطأوا بها على اللبنانيين. فلبنان التعددية جعل كل طائفة تخاف على وجودها من الطرف الآخر، مما يجعلها تسعى إلى تحقيق القدر الأكبر من المكتسبات مهما كانت، وبأي طريقةٍ كانت، فقط من أجل الحفاظ على الوجود. لذلك تجد اللبناني يبرِّر لزعيمه كل ما يقوم به من تصرُّفات، فحتى لو كانت مشبوهة، فهو يغض البصر. وباعتبار أن أكبر عائق للتغيير هو التبرير، فإن تعلُّق اللبناني بالسياسي «المُنقذ» جعله يعُطيه السُّلطة لتعيين القضاة وتسييسهم، حتى إن الجهات الرقابية أصبحت مسيَّسة بالكامل، مما تسبَّب في سقوط هيبة الدولة، وسمح للزعماء وجماعتهم، من كل الطوائف، بنهب البلاد من دون حسيبٍ أو رقيب.
كما قال القدِّيس أوغسطين: الحقيقة مثل الأسد، لا داعي أن تدافع عنها، فقط أطلقها وهي تُدافع عن نفسها.
إذا لم نتحرَّك سريعاً، ولم نعمل على إنقاذ ما تبقَّى من البلد، فإننا قد حكمنا على أبنائنا من بعدنا أن يرثوا عشرات الأعوام من الظلمة، إن لم يكن المئات. دعونا نحاول، ولن أقول يكفي شرف المحاولة، فالشرف قد ضاع لحظة باع اللبناني الوطن، وقام باتخاذ طائفته وطناً بديلاً، بل دعونا نحاول على الأقل لكي نغسل عار الحروب الأهلية والفكر الطائفي وسرقة المال العام باسم حماية الطائفة والوجود.
وهنا نطرح سؤالاً آخر: كيف لبلدٍ مثل لبنان، ينهشه الفساد بهذا الشكل، لا تضم سجونه فاسداً واحداً؟! كيف أن لبنان لم يشهد يوماً توقيف وزيرٍ أو إقالته بتهمة فساد؟ لتقتصر المحاسبة على بعض الموظفين عبر توقيفات شكلية لم تفضِ قَط إلى عدالةٍ حقيقية، وأصبح قانون العقوبات لا يساوي الحبر الذي كُتب به؟ إضافة إلى ذلك، كيف أن ملفات الفساد يعلمها الجميع فيما بينهم، وحتى يتم تداولها علناً على الإعلام، ولكن القضاء له آذان صمَّاء عنها؟ الكل يعلم... أنت تعلم، والزعيم يعلم أنك تعلم، وأنت تعلم أنه يعلم أنك تعلم، لكنك لا تقوم بأي شيء، وهو يقوم بكل ما يحلو له، وهو يزداد غنى، وأنت تزداد فقراً، ولبنان يدفع الثمن... وتدور المهزلة.