المهندس الذي قرأ القرآن
في السنوات الأخيرة برز اسم الشيخ محمد المقرمي بوصفه نموذجاً مختلفاً للداعية المعاصر، رجلٌ بدأ حياته مهندساً، ثم وجد في القرآن طريقه إلى إعادة اكتشاف ذاته والعالم من حوله.
وُلد المقرمي في محافظة تعز باليمن، وتخصّص في هندسة الطيران وخاض عملاً مهنياً ناجحاً في المملكة العربية السعودية، قبل أن يقوده التأمل الطويل إلى تحوّل روحي عميق جعله يترك الهندسة ويتفرغ لتدبّر القرآن وتعلمه.
والسؤال المطروح: هل كان لدراسة الهندسة دور في تميّز الداعية المقرمي في تأملاته في القرآن؟
من خلال خبرتي المتواضعة بالعلوم التطبيقية والإنسانية، ومن خلال مصاحبتي القريبة لأصدقائي المهندسين الأعزاء إلى قلبي، خصوصاً المثقفين منهم، الإجابة عندي مختلفة قليلاً.
أولاً: الهندسة ليس لها علاقة بعلوم الآلة التي تعين على فهم القرآن والأحاديث النبوية، فالهندسة لا تدرّس الحس اللغوي والسياقي، إنما يتدرب الطالب فيها على التجريد والرمز، لا على استحضار الاستعمال العربي، والسياق والمجاز وأعراف الخطاب. والشريعة إنما تُفهم بلسان العرب، لا بمجرد تعريفات عقلية جامدة.
ثانياً: تتميز الهندسة بالصرامة المنطقية، واليقين البرهاني، والبناء القائم على مقدمات ثابتة ونتائج لازمة. وهذه الخصائص، على جلالتها، قد تتحول إلى عيوب منهجية إذا تأثر بها المهندس وأسقطها إسقاطًا مباشراً على فهم الشريعة دون وعي بطبيعة المجال المختلف، فالهندسة لا تعرف إلا القطع والرقم الصحيح، بينما يقوم كثير من الفقه على الظن الراجح، وتعدّد الدلالات، واختلاف المناط، ومن ثمّ، فإن التعامل مع الخلاف الفقهي بعقلية «الصواب والخطأ المطلق» يُفضي إلى تضييق ما وسّعه الشرع، وإنكار ما اعتبره العلماء معتبراً.
أما العيب الثالث فهو تغليب البنية العقلية على المقاصد الشرعية، فالعقل الهندسي يميل إلى الاتساق الداخلي، في حين أن الشريعة تراعي المآلات، وتوازن بين المصالح والمفاسد، وتتعامل مع واقع بشري متغير.
عزيزي القارئ... لا شك أن دراسة الهندسة ليست بالأمر الهيّن، وهذا ما يجعل أغلب طلبتها يعتزون بآرائهم وفكرهم، وهذا ما يميز المهندس عن غيره ويجعله أكثر اعتزازاً بتخصصه، وهذا أمر جيد (لمن أراد التّدبر)، ولكن البعض قد يحوّل هذه المميزات إلى عيوب لا تغتفر، إذا هيمن عليه المنطق الرياضي البرهاني ولم يستطع الانفكاك منه في استيعاب العلوم الأخرى كالفلسفة والتربية.
وأما مهندسنا، رحمه الله، فقد عُرِف بإخلاص نيّته بالنمط الصحيح في التفكير، وقرر أن يصاحب القرآن ويعطيه أغلب وقته، واحترم عقله المتسائل الذي يبحث عن الحق بتواضع، وهذا ما كان يوصي به الشباب، وقد أوصى أن يبحثوا عن أنفسهم في القرآن، كما فعل هو في بداية رحلته مع التدبر، مستنداً إلى قوله تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ» وأوصى بالالتزام بالفرائض وعدم إيذاء الآخرين، ودعا لخلوة التدبر، وأكد مراراً على أن الصدق شرط أساسي للفهم العميق، وأن الكذب يحجب القلب عن نور القرآن، فقراءة الوحي ليست كباقي العلوم، فهو يحتاج إلى طهارة داخلية وخارجية لاستيعابه «لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرونَ» طهارة من النجس والشرك والنفاق.
ــ كانت هذه هي الطرق التي أوصى بها المهندس الذي قرأ القرآن.