ليس بجرّة قلم تُحلّ المعضلات

نشر في 18-12-2025
آخر تحديث 17-12-2025 | 19:57
 حسن العيسى

ليس بجرّة قلم تنتهي المسألة. فلو افترضنا -كما تساءل فرانسيس فوكوياما- ماذا سيحدث لو نُقلت مؤسسات التخطيط الاقتصادي على الطراز الياباني أو الكوري الجنوبي إلى البرازيل أو باكستان؟ السؤال وارد في كتابه "بناء الدولة: النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين"، وإجابته أبعد ما تكون عن السذاجة. فحتى لو تم «استنساخ» النموذج الياباني أو الكوري حرفياً، فلن يُكتَب له النجاح في سياقات اجتماعية واقتصادية مختلفة، مهما تقدّمت تلك البلدان في بعض مجالات العلوم والثقافة مقارنةً بكثير من دول العالم العربي.

يعود فوكوياما إلى العالم العربي ليشير إلى مفارقة لافتة: دول أكثر تماسكاً تحاول بناء الدولة من الداخل عبر فصل الإصلاح الإداري والمؤسسي عن الإصلاح المجتمعي والسياسي. وبعد سنوات طويلة من حملات «مكافحة الفساد»، وتشكيل لجان المحاسبة و«من أين لك هذا؟»، وترسيخ شعارات الشفافية، نصطدم بحقيقة مؤلمة: الدولة لا تزال أسيرة المحاباة واستغلال النفوذ. ليست المشكلة في نقص القوانين، بل في ثقافة اجتماعية ضاربة الجذور، تراكمت عبر عقود، ولا تُقتلع بقرار إداري ولا تُغيَّر بتشريع عابر.

يؤكد المؤلف أن معظم التحولات الاقتصادية داخل المؤسسات العامة ليست اقتصادية المنشأ، بل سياسية وثقافية، وأن الإصلاح لا ينجح إلا إذا تكاملت مساراته كافة. خذ مثالاً شائعاً: إلزام الموظف العام بالتوقيع أو البصمة ثلاث مرات يومياً لضبط الالتزام بساعات العمل. هل زادت هذه الإجراءات إنتاجية الموظف؟ وماذا لو كان حضوره أو غيابه واحداً بالنسبة للخدمة العامة؟ هل نتوقع، لمجرد تشديد الانضباط الشكلي، أن تتحول المؤسسة إلى خلية نحل على شاكلة مصانع تويوتا أو مرسيدس؟

الأمر نفسه يتكرر في أزمة المرور الخانقة: شوارع مختنقة كعلب السردين، وسلوكيات قيادة تفتقر إلى الحد الأدنى من آداب الطريق. فيأتي الحل سريعاً: قانون أشدّ، وغرامات أعلى. هكذا، وبكل بساطة، تُختزل المشكلات المعقّدة في «عصا التشريع»، وكأنها العصا السحرية القادرة على علاج أعطاب اقتصادية واجتماعية متجذّرة. والنتيجة غالباً كارثية: كلفة اجتماعية واقتصادية لم تُحسب، وتداعيات لم تخطر ببال واضع القانون لحظة سنّه.

ما العمل إذن مع هذا التفكير؟ الجواب ليس في المزيد من النصوص، بل في تغيير المنظور: تشريعٌ بلا ثقافة حاضنة يتحول إلى عبء، وإدارةٌ بلا حوافز ومعايير أداء تُنتج حضوراً شكلياً لا قيمة له، وقوانين بلا ثقة عامة تُولّد تحايلاً لا امتثالاً. الإصلاح الحقيقي يبدأ من الاعتراف بأن الدولة ليست جهازاً إدارياً فحسب، بل منظومة قيم وحوافز وسلوكيات. عندها فقط، ، يمكن أن يبدأ التغيير.

back to top