«أثر الموسيقى اللبنانية على العربية... تجربة المسرح الرحباني نموذجاً» في جمعية الخريجين
ندوة قدّمها د. عبدالله المصري وناقشها الروائي عبدالوهاب الحمادي
بين بيروت وموسكو والكويت، تشكّلت تجربة الموسيقي والمؤلف الدكتور عبدالله المصري، تجربة تنفتح على العالمية في لغتها، وعلى الإنسان في عمقه الشعوري والوجداني.
تنقّل في أعماله بين التأليف الآلي الفردي، والكتابة الأوركسترالية، والمشاهد الموسيقية ذات البُعد الدرامي، هذه الرحلة الفنية، جعلته قادراً على قراءة التجارب الموسيقية الكبرى بوعي نقدي وإنساني، وفي مقدمتها تجربة المسرح الرحباني، التي شكّلت محطة مفصلية في تاريخ الموسيقى اللبنانية والعربية، وأسهمت في إعادة صياغة العلاقة بين الموسيقى والمسرح والإنسان العربي.
وفي ندوة استضافتها جمعية الخريجين بعنوان «أثر الموسيقى اللبنانية على الموسيقى العربية»، حلّل خلالها الأستاذ المساعد بكلية التربية الأساسية في جامعة الكويت، د. عبدالله المصري، التجربة الرحبانية وتأثيرهم على المستمع العربي، وفي مستهل الندوة، ألقى عريفها، الروائي عبدالوهاب الحمادي، نبذة تعريفية عن د. المصري، معرباً عن سعادته بتقديم قامة موسيقية قضت 30 عاماً في تعليم الموسيقى بالكويت، وتمتلك اطّلاعاً واسعاً وعميقاً على الظاهرة الرحبانية.
وأشار الحمادي إلى أن الأخوين رحباني استفادا في بداياتهما من المدرسة المصرية، غير أن تعاونهما مع الموسيقار محمد عبدالوهاب أسهم في إحداث تأثير واضح بصياغة اللحن وتطويره، فضلاً عن تميّز تجربتهما في كتابة الشعر العربي والأغنية.
وأوضح الحمادي أن الظاهرة الرحبانية، التي استطاعت فيروز أن تنقلها بصوتها لتترسخ في القلوب والعقول والتاريخ الموسيقي، تأثّرت بعدة مدارس وأنماط موسيقية، من بينها الغناء الكنسي، والشعبي، والبحري، والبدوي، والزجل، قبل أن تُصهر جميعها في تجربة فريدة عُرفت بالرحبانية.
وقد انطلقت هذه التجربة عبر صوت فيروز الساحر، لتحقق أهدافها الفنية والجمالية وأكثر، من خلال مسار إبداعي لا يُنسى.
من جانبه، قال د. المصري إن تجربة المسرح الرحباني تمثّل أبرز وأهم محطة في تاريخ الموسيقى اللبنانية، ولذلك تُعد رمزاً معبّراً عنها، لما كان لها من تأثير بالغ في وجدان المستمع العربي. وأوضح أن هذه التجربة غيّرت المعادلات المتّبعة بالموسيقى العربية والمسرح في تلك المرحلة، من خلال رؤية عميقة ومتطورة جداً للأخوين رحباني، بالتعاون مع الصوت الأسطوري فيروز، لتبقى تلك التجربة علامة فارقة ونقطة تحوّل في مسار الموسيقى العربية.
وأشار المصري إلى أن المسرح الرحباني شكّل عالماً قائماً بذاته، تناول موضوعات وطنية وقومية وعاطفية وإنسانية، بأسلوب فلسفي وتراجيدي، من خلال الحوارات الغنائية التي قدّمت صورة غير نمطية للمسرح الغنائي.
وأكد أن هذه التجربة لم تكن تقليداً للمسرح الأوروبي أو غيره من المسارح التي سبقتها، بل جاءت تجربة مستقلة تعبّر عن ذاتها بانفراد وإبداع يصعب وصفه. ولفت إلى تأثّره الشخصي منذ الطفولة بالتجربة الرحبانية، حيث غذّت مخيلته ومرهفته السمعية، وزادت شغفه وحبه لصوت فيروز بتوليفته الرحبانية، مستمعاً إلى تسجيلات فيروز والأخوين رحباني كما لو كانت مغناطيساً يجذبه نحو مستقبل مفعم بحب الموسيقى عموماً والرحبانية على وجه الخصوص.
من جهته، أكد رئيس جمعية الخريجين، إبراهيم المليفي، أن استضافة الجمعية لهذه الندوة تأتي انطلاقاً من أهمية التجربة الرحبانية، إلى الحد الذي لفت انتباه اللجنة الثقافية في الجمعية، لتسليط الضوء على مدرسة موسيقية شديدة التفرد والتميز، باقية عبر السنوات، لأنها حفرت مجدها وتجربتها بعمق لا يمحوه التاريخ. وأوضح أن هذه التجربة تستحق أن يُشار إليها بوصفها أحد مكونات هويتنا العربية الثقافية والموسيقية.
وأضاف المليفي أن الأجيال الجديدة بحاجة ماسّة إلى تسليط الضوء على التجربة الرحبانية واللبنانية بشكل علمي وتحليلي، كما قدّم د. المصري، حيث كشف من خلال الندوة عن القصص الخفية وراء الألحان، مبرزاً حجم الجهد والإبداع والتطوير الذي طرأ على الأغنية العربية بفضل هؤلاء المبدعين.
يُذكر أن د. عبدالله المصري مؤلف موسيقي عالمي مقيم في الكويت، يتنقل بين روسيا ولبنان وعواصم العالم لتقديم أعماله الموسيقية. وقد تأثّر في طفولته بالتجربة الرحبانية، والتحق بكونسرفتوار موسكو، حيث حصل على شهادة البكالوريوس من الأكاديمية الموسيقية التابعة له، ثم نال درجة الدكتوراه عام 1993، كما حصل على العديد من الجوائز، وله مؤلفات موسيقية وأعمال علمية وكتب تناولت تجربته الموسيقية.
وفي ورقة قدّمها الروائي عبدالوهاب الحمادي حول تجربة د. المصري، تطرّق إلى أبرز نشاطاته المميزة، من بينها مشاركته في أعمال أوركسترالية بإفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، ومشاركته في مسابقة الملحنين الشباب في كونسرفتوار تشايكوفسكي عام 1988، حيث أصبح واحداً من الموسيقيين البارزين على الساحة الروسية. كما قُدّمت مؤلفاته الموسيقية في مصر وألمانيا والكويت وتشيلي وفرنسا وبريطانيا ولبنان وسويسرا، وشارك في مهرجانات موسيقية عدة حول العالم.
وتتميّز موسيقى المصري باستقلالية واضحة في الأسلوب منذ أعماله الأولى، ومنها «سوناتا الكمان».
ويعود ذلك إلى ابتكاره منظومة سمعية (هارمونية) خاصة به، تعتمد أسلوب التألّف الواحد، الذي يتمتع باحتمالات متعددة تتطور وتتغير وفقًا لمجريات السياق الدرامي التأليفي. كما يتّسم الطابع اللحني في أعماله بابتكارات مقامية ترتبط بأجناس المقامات الشرقية العربية، حيث تُحاك التآلفات المبتكرة وفق نقاط ارتكاز هذه المقامات وطبائعها البنيوية.