هيمنة وتفرّد السلطة التنفيذية في أميركا
تمرّ الولايات المتحدة الأميركية، في ظل ولاية الرئيس ترامب الثانية، بأسوأ نماذج النظام الرئاسي المختل من ناحية توازن السلطات ورقابتها، حيث بلغت أحوال توزيع الاختصاص بين السلطات مرحلة خللٍ وانحراف غير مسبوق لم تبلغه حتى بأسوأ نماذج الأنظمة الفردية والدكتاتورية في العالم، حيث أصبحت وضعية توزيع اختصاصات كل سلطة وفقاً لتحليلي على نحو لا يُقارن مع السلطة التنفيذية، فقد وصل عدد الأوامر الرئاسية 218 أمراً برقم غير مسبوق، وتقلصت التشريعات لأقل من 20 بالمئة.
أما الأحكام القضائية الفدرالية فتضاءلت بنسبة لا تتجاوز 10 بالمئة.
وهو خلل خطير لا يمكن أن تصل إليه أي دولة ديموقراطية أو شبه ديموقراطية حتى يُقرع فيها ناقوس الخطر وجرس التحذير الديموقراطي والدستوري من خطورة مثل هذا الانحراف! والذي يخرج بالنظام بخصوص مؤشرات الأنظمة الديموقراطية من دائرة الأنظمة الديموقراطية ليندرج في نطاق الأنظمة الدكتاتورية أو الفردية التي تُحاصر فيها الحقوق الدستورية، وتُصادر فيها الحريات، ويتم التضييق على النمط الاعتيادي لحرية الإعلام والرأي واحترام وجود الرأي الآخر، مما يرفع أحوال الاحتقان السياسي والتذمّر الشعبي بوتيرة متزايدة في الدولة، وهذا ما يلاحظه المراقبون والمحللون للوضع بالولايات المتحدة الأميركية في الولاية الثانية لترامب بظهور حركة No King، وقد انعكس كل ذلك بتحوّل لافت في نطاق السلطة التنفيذية ذاتها، والتي فقدت نظامها المؤسسي ودورها الجماعي والمتعلق بمؤسسية مجلس الوزراء، حيث غدا الوزراء مجرد مكملين للعدد أو خيال المآتة الذين يقتصر دورهم على مدح ترامب أو تنفيذ أوامره بشكل قسري، خشية من تقريعه وردّة فعله غير القابلة للتوقع، والتي يمكن أن تتم بالعلن وأمام وسائل الإعلام والصحافيين، كما حدث في حالات كثيرة سابقة.
وهو الأمر الذي تغلغل إلى وضع "الكونغرس"، الذي لم يصدر عملياً ما يصل إلى نسبة 20 بالمئة من الصلاحيات مقابل 218 أمراً رئاسياً منها بيد الرئيس، مما أحدث خللاً خطيراً بمبدأ الفصل بين السلطات والتوازن والرقابة المتبادلة أو المتعادلة أو المتوازنة بين السلطات، وهو ما قاد إلى حالة من الفراغ الواقعي للسلطة التشريعية، التي اقتحمت ميدانها وملأت مكانها السلطة التنفيذية على نحو يهدد بتلاشي مبدأ الفصل بين السلطات والرقابة المتبادلة بينها، والاتجاه نحو نموذج لا تعرفه إلا الأنظمة الفردية أو الدكتاتورية التي تتنكر للأطر والقواعد الدستورية، وهو ما يخشاه المراقبون في ظل الولاية الثانية للرئيس ترامب.
وأخيراً، يلاحظ ذلك الغياب المخيف للسلطة القضائية بأميركا في هذه المرحلة، والتي يشير المراقبون إلى أنها صارت واقعياً وعملياً لا تتمتع إلا بمساحة محدودة من الصلاحيات والاختصاصات في الدولة، خلافاً لوضعها الطبيعي الذي كان لا يقل في كل الأحوال عن 36 بالمئة، بل ويصل في بعض الأحيان لنسبة 55 بالمئة، مما دفع البعض لوصف النظام بأميركا في مراحل سابقة، بأنه دولة القضاة.
وكل تلك الهالة وذلك الثقل والصلاحيات التي كان القضاء يملكها ويمارسها دستورياً وواقعياً تلاشت اليوم، في ظل الولاية الثانية لترامب، لتضع القضاء في دائرة ونطاق "جهاز رقابة إداري" يعيش القلق والحذر أن يصدر أحكاماً أو قرارات قضائية تخرج عن سياسات أو توجهات ترامب، وما قد يترتب على ذلك من تبعات لا يمكن التنبؤ بها في حقبة الولاية الثانية للرئيس ترامب، والتي أضحت مرحلة تفرد للسلطة التنفيذية في أميركا!