الوطني للثروات: فهم وإدارة التحيزات السلوكية للمستثمرين الأفراد في سياق إدارة الثروات

نشر في 16-12-2025
آخر تحديث 15-12-2025 | 20:36
الوطني للثروات
الوطني للثروات
تقوم النظريات المالية التقليدية على افتراض أن المستثمرين يتخذون قرارات عقلانية بغرض رفع العائد المتوقع إلى الحد الأقصى. لكن الواقع يروي قصة مختلفة تماماً، فالسلوك الاستثماري يتأثر في معظم الأحيان بالعاطفة والانطباعات الشخصية والذاكرة والتوجهات النفسية التي تشكِّل طريقة فهمنا للمخاطر وعدم اليقين.

يهدف علم التمويل السلوكي إلى تفسير هذه التباينات من خلال تحليل العوامل النفسية المؤثرة في عملية صُنع القرار، حيث يصنف التحيز السلوكي (Behavioral Bias) الذي يوجه قرارات المستثمرين، كأنماط منهجية، وليست مجرَّد حالات فردية، مما يؤثر في كيفية قراءة الأسواق، وتقييم الفُرص، والاستجابة للتقلبات. وتمثل هذه التحيزات في كثيرٍ من الأحيان عائقاً هيكلياً أمام تحقيق بناء ثروة مستدامة على المدى الطويل.

يمثل استيعاب هذه التحيزات ركيزة أساسية لإدارة الثروات بفاعلية. فقد أصبح دور المستشار الاستثماري اليوم يتجاوز مجَّرد تصميم المحافظ الاستثمارية، ليشمل مرافقة العملاء خلال فترات الشك وعدم اليقين، والحد من القرارات العاطفية، وضمان اتساق التوجهات قصيرة الأجل مع الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل.

التحيزات السلوكية واتخاذ القرار

يتشكَّل سلوك المستثمرين عبر مزيج من تجارب النشأة والخبرات الحياتية والتعليم والبيئة الاجتماعية، إضافة إلى تأثير الأزمات المالية التي مروا بها. قد تترك التجارب المبكرة، خصوصاً تلك المرتبطة بالخسائر الحادة، أثراً طويل الأمد على استعداد المسثمرين لتقبُّل المخاطر، حتى عندما تتغيَّر ظروف السوق وتتطوَّر بنية وهيكلية المحافظ.

كما يعتمد معظم المستثمرين على اختصارات ذهنية لتبسيط اتخاذ قرارات أسرع في مواقف معقدة. ورغم أن هذه الآلية توفر قدراً من الكفاءة، فإنها قد تقود إلى نتائج أقل من مثالية. فهذه الاختصارات هي البيئة التي تنشأ منها التحيزات السلوكية، والتي بدورها تؤثر في كيفية توزيع رأس المال، وتقييم الأداء، ومدى الالتزام بالاستراتيجية الاستثمارية.



تصنيف التحيزات السلوكية

تنقسم التحيزات السلوكية عموماً إلى فئتين رئيسيتين: التحيزات المعرفية الناتجة عن أخطاء في التفكير ومعالجة المعلومات، والتحيزات العاطفية التي تنشأ من ردود فعل غريزية وانفعالية. وتمثل التفرقة بين الفئتين عنصراً حاسماً في إدارة الثروات، لأنها تحدد إذا كان من الممكن تعديل السلوك عبر التوعية، أو ما إذا كان يجب التعامل معه من خلال تصميم وهيكلة المحافظ الاستثمارية.

أبرز التحيزات السلوكية في إدارة الثروات

رغم أن جميع التحيزات تؤثر في سلوك المستثمر، فإن هناك ثلاثة تحيزات تترك تأثيراً كبيراً على الممارسات الحديثة في إدارة الثروات: تجنب تحقيق الخسارة (loss aversion)، والمحاسبة الذهنية (mental accounting)، والتحيز نحو المعلومات المؤكِدة (confirmation bias)، حيث إن تجنب تحقيق الخسائر يجعل المستثمرين يخشون الخسائر بدرجة تفوق تقديرهم للمكاسب، مما قد يؤدي إلى التسرُّع في جني الأرباح، والتردُّد في بيع الأصول ذات الأداء الضعيف، أملاً في تجنب الخسائر المحققة، مما يخل بانضباط المحفظة الاستثمارية، ويُضعف أثر التراكم على المدى الطويل. كذلك خلال فترات التقلبات، تصاعد الاستجابات الانفعالية يحفِّز سلوكيات استثمارية متحفظة من الممكن أن تعوق تحقيق عوائد مجزية على المدى الطويل.

المحاسبة الذهنية تؤدي إلى التفكير المجزأ، حيث يتم النظر إلى الأصول بمعزلٍ عن المحفظة ككل، وميل المستثمرين، على سبيل المثال، إلى الفصل بين المحافظ المخصصة للدخل وتلك الموجهة للنمو أو المضاربة، من دون النظر إلى مستوى المخاطر الإجمالي للمحفظة.

ورغم أن هذا النهج يمنح شعوراً بالارتياح النفسي، فإنه يُضعف كفاءة توزيع الأصول، ويُنتج مستويات متباينة من المخاطر. ومع مرور الوقت، يتآكل مستوى التنويع، وتنخفض العوائد المعدلة وفق المخاطر.

يميل المستثمرون بفعل الانحياز نحو المعلومات المؤكِدة إلى انتقاء المعلومات التي تتماشى مع آرائهم المسبقة، متجاهلين الأدلة المناقضة لها. هذا يشوِّه عملية اتخاذ القرار، ويُرسخ استراتيجيات غير فعَّالة، ويؤخر اتخاذ الإجراءات التصحيحية، مما يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى خسائر كان من الممكن تجنبها.

الإدارة العملية للتحيزات السلوكية 

تمثل التحيزات السلوكية أحد أكثر المخاطر التي يُساء تقديرها في مجال إدارة الثروات. فهي تؤثر بشكلٍ مباشر على كيفية استجابة المستثمرين لحالات عدم اليقين، وعلى مدى التزامهم بالاستراتيجيات الطويلة المدى. وتعترف الأطر الحديثة لإدارة الثروات بأن المحافظ المُثلى يجب أن تعكس مزيجاً من المنطق الكمي وفهم السلوك الإنساني. فالمستشارون الذين يوظفون البصيرة السلوكية لا يديرون رأس المال فحسب، بل يُسهمون في مساعدة عملائهم في الحفاظ على الانضباط والتوافق وتحقيق نتائج مستدامة على المدى الطويل.

يتطلب التعامل الفعَّال مع التحيزات السلوكية موازنة دقيقة بين التوعية والتكيُّف، إذ يمكن التخفيف من التحيزات المعرفية عبر الإرشاد المنهجي، وتطبيق التفكير الموضوعي، فيما تحتاج التحيزات العاطفية غالباً إلى تصميم محفظة مدروس، وتواصل واضح، يهدف إلى امتصاص تأثير ردود الفعل الانفعالية.

يمكن للمستشارين الاستثماريين دعم العملاء من خلال تعزيز الرؤية طويلة المدى، ووضع التقلبات قصيرة الأجل في سياقها الصحيح، والحد من المراقبة المفرطة للمحفظة. ويُسهم التواصل الشفاف وصياغة الرسائل بعناية في الحفاظ على الانضباط، خصوصاً خلال فترات الضغوط. وفي بعض الحالات، قد يكون من المناسب السماح بقدر محدود من الانحراف عن التوزيع الأمثل للأصول لضمان استدامة السلوك الاستثماري على المدى الطويل.

back to top