الأخلاقيات الحيوية الإسلامية... حين يلتقي الضمير الإنساني بالعلم

• من الكويت إلى العالم: لحظة نضج أخلاقي حضاري

نشر في 15-12-2025
آخر تحديث 14-12-2025 | 19:15
 محمد الجارالله

شاركت بالدوحة في تدشين الرابطة الدولية للأخلاقيات الحيوية، بالتعاون مع جامعة حمد بن خليفة، وقد بدا واضحاً أن الحدث يتجاوز تأسيس كيان مؤسسي جديد، ليعبّر عن محطة نضج لمشروع حضاري طويل بدأ منذ أكثر من أربعة عقود في الكويت. 

لم يكن الإعلان عن الرابطة هدفاً في حد ذاته، بل إشارة إلى انتقال الأخلاقيات الحيوية الإسلامية من التأثير المؤسسي المحدود إلى فضاء الإلهام العالمي، في زمن تتسارع فيه التطورات الطبية والتقنية بوتيرة تسبق قدرة المجتمعات على الاستيعاب والتنظيم، وتفرض على البشريه أسئلة أخلاقية أعمق من مجرد الإمكانية العلمية للإنجاز.

ما هي الأخلاقيات الحيوية؟ ولماذا أصبحت قضية إنسانية ملحّة؟

الأخلاقيات الحيوية هي الإطار القيمي الذي يضبط ممارسة الطب والعلاج وعلوم الأحياء، ويوازن بين المنفعة والضرر، وبين الإمكانات التقنية المتقدمة والحفاظ على كرامة الإنسان. وهي تمثّل الضمانة الأساسية لسلامة الإنسان في مواجهة خطر تحويل الطب من رسالة رحمة إلى صناعة بلا ضمير، أو من علم لخدمة الحياة إلى تجارة قد تنتهي بتسليع الجسد البشري، كما يحدث في بعض نماذج الاتجار بالأعضاء أو استغلال الفقر والحاجة تحت شعارات إنسانية ظاهرها الرحمة وباطنها السوق. ومن دون هذا الإطار الأخلاقي، يصبح التقدم الطبي سلاحاً ذا حدين.

الإسلام سبق المصطلح واحتوى المضمون

في هذا السياق، تتجلى خصوصية الأخلاقيات الحيوية الإسلامية، فالإسلام لم ينتظر ظهور المصطلح الحديث ليطرح هذه الأسئلة، بل سبق المفهوم واحتوى مضمونه. فمنذ قرون، تعاملت الحضارة الإسلامية مع الطب بوصفه علماً أخلاقياً قبل أن يكون علماً تقنياً، ورأت في الإنسان كياناً مكرماً، (ولقد كرّمنا بني آدم)، لا مادة اختبار ولا مشروع تحسين بلا حدود. لذلك جاءت مقاصد الشريعة - وفي مقدمتها حفظ النفس والعقل والنسل وصَون الكرامة - إطاراً ناظماً للممارسة الطبية، يوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، ولا يستثني الضعيف أو المريض أو المسنّ أو المعوز من حقه في الرعاية والاحترام.

من ابن النفيس إلى الخوارزمي: العلم والأخلاق في بنية واحدة

ولقد أسهم علماء المسلمين الأوائل في وضع أسس أخلاقيات الممارسة الطبية بمعناها العميق، فقاعدة «لا ضرر ولا ضرار» لم تكن شعاراً فقهياً، بل قاعدة عملية تحكم القرار العلاجي وتمنع الإيذاء غير المبرر. كما أسهم الحديث الشريف  «الطبيب ضامن» في ترسيخ مفهوم المسؤولية الطبية والمساءلة الأخلاقية. والعدالة في تقديم العلاج منعت التمييز بين المرضى، وصون السّر الطبي أصبح واجباً أخلاقياً قبل أن يكون التزاماً قانونياً. ويبرز هنا ابن النفيس، الذي جمع بين عبقرية التشريح وعمق النظر المقاصدي، فلم يكن اكتشافه للدورة الدموية الصغرى إنجازاً تقنياً معزولاً عن رؤيته الأخلاقية للإنسان. كما أسهم ابن رشد في ترسيخ العقل والعدل بفهم الطب وممارسته. أما الخوارزمي (العالم الذي خُلّد اسمه اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي من خلال «الخوارزميات»)، فقد أسس المنهج العلمي القائم على الضبط والدقّة، مؤكداً أن الأخلاق لم تكن زينة للعلم الإسلامي، بل جزءاً من بنيته العميقة.

الطب الحديث وأسئلته الصعبة: الجينات، البصمة الوراثية، التبرع بالأعضاء، والذكاء الاصطناعي

ومع تطوّر الطب الحديث، وظهور قضايا شديدة الحساسية، مثل زراعة الأعضاء، والهندسة الوراثية، والتحوير في الجينات، وأطفال الأنابيب، ثم الذكاء الاصطناعي الطبي، عاد السؤال الأخلاقي بقوة: هل كل ما يمكن فعله علمياً يجب أن يُفعل أخلاقياً؟

الإجابة في الرؤية الإسلامية بقيت متزنة: إنقاذ الحياة مقصد عظيم تسعى له وتحثّ عليه، لكن دون انتهاك كرامة الإنسان، ودون تحويل الجسد إلى سلعة، ودون فتح أبواب الاستغلال باسم التقدم. فالذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أداة مساعدة في التشخيص واتخاذ القرار، لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الضمير الإنساني أو المسؤولية الأخلاقية.

حين تتحول القيم إلى مرجعية مؤسسية عالمية

غير أن التجربة الإنسانية أثبتت أن القيم، مهما بلغت قوتها، لا تصمد طويلاً إذا بقيت حبيسة الكتب أو رهينة الاجتهادات الفردية. ومن هنا جاءت الحاجة التاريخية إلى إطار مؤسسي يحمي هذه القيم ويطوّرها. في هذا السياق جاءت اللفتة الحكيمة من الشيخ جابر الأحمد الصباح، طيّب الله ثراه، بإنشاء المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية كذراع طبية ومشروع حضاري طويل النفس، يجمع الفقيه والطبيب والعالم تحت سقف واحد.

وعلى مدى أربعة عقود، تعاونت المنظمة مع جامعة الأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، ومنظمة الصحة العالمية، ودوائر الإفتاء، والجامعات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، والأطباء والمنظمات الطبية والعلماء، ونظّمت عشرات المؤتمرات والندوات التي ناقشت أدق مستجدات الطب. وقد أسهم هذا الجهد في ترسيخ الأخلاقيات الحيوية الإسلامية كمرجعية علمية جادة، حاضرة اليوم في النقاش الأكاديمي العالمي، من «أكسفورد» إلى «هارفارد» والجامعات المرموقة.

خلاصة المعنى

في عالم تنطلق فيه ابتكارات مذهلة، ويعلو فيه صخب التقنية والذكاء الاصطناعي، تذكّرنا الأخلاقيات الحيوية الإسلامية بأن التقدم الحقيقي لا يُقاس فقط بما نستطيع إنجازه، بل بقدرتنا على حماية الإنسان من أن يتحول، في زحمة الابتكار، إلى مجرد وسيلة أو سلعة، فحين يلتقي العلم بالضمير، يبقى الإنسان في قلب المعادلة... وهذا هو جوهر الرسالة.

* وزير الصحة الأسبق.

back to top