صحيفتان في واحدة!
في عالم مثالي، لا تنشر الصحف تقارير مضللة، ولا تحتاج إلى التراجع أو الاعتذار. لكن البشر يخطئون، والصحافة الجيدة تعرف كيف تصحح نفسها. لهذا، أجد من المفيد - ولو بصورة متأخرة - أن صحيفة بحجم «واشنطن بوست» سمحت بنشر مقال ينتقد تغطيتها الخاصة لقضية الضربة الأميركية الأخيرة ضد قارب يُشتبه في نقله المخدرات في الكاريبي.
الواقعة بدأت عندما زعمت الصحيفة أن وزير الدفاع بيت هيغسيث أصدر “أمراً شفهياً” للجيش لتنفيذ ما سمّته “ضربة مزدوجة”: أي قصف القارب أولاً، ثم إطلاق صاروخ ثانٍ بعد دقائق أغرق السفينة وقتل من بقي حيّاً. ونقلت الصحيفة عن “خبراء” أن ذلك قد يشكّل “جريمة حرب”، بما يعرّض المسؤولين للملاحقة في المستقبل.
لكن مارك ثيسن، كاتب الرأي في الصحيفة، نسف الرواية الدرامية. فقد أوضح أن هيغسيث نفسه قال إنه لم يعلم بوجود ناجين أو بضربة ثانية إلا بعد ساعات، وأنه حتى لو كان قد أمر بها مباشرة، فليس ثمة ما يجعل الضربة الثانية غير قانونية، فالعرف العسكري يسمح باستهداف هدف عسكري أكثر من مرة لضمان تحييده.
اللافت أن كثيراً من المنتقدين لا يعترضون على “كيفية” الضربة فحسب، بل على الضربة الأولى نفسها، لكنهم يدركون أن الرأي العام الأميركي لا يمانع استهداف قوارب تهريب الكوكايين، خصوصاً بعد الارتفاع الهائل في الوفيات المرتبطة بالمخدرات. فبحسب مراكز مكافحة الأمراض، ارتفعت الوفيات الناجمة عنه من نحو 4,600 في 2011 إلى ما يقرب من 29,500 في 2023، كثير منها بسبب خلط الفنتانيل مع الكوكايين.
هذه الحقائق تفسّر لماذا يتحدث المسؤولون بثقة عن الحاجة “لضرب” شبكات الكوكايين والفنتانيل معاً. وزيرة الأمن الداخلي كريستي نويم قالت للرئيس ترامب في اجتماع حكومي هذا الأسبوع إن إدارته “قلّصت تدفق الفنتانيل عبر الحدود الجنوبية بأكثر من 56 في المئة، وأنها أنقذت مئات ملايين الأرواح بتدمير شحنات الكوكايين في الكاريبي”. القول مبالغ فيه بالتأكيد، لكنه يعكس قناعة لدى قطاع واسع من الناخبين بأن الإدارة تُظهر حزماً في هذا الملف القاتل.
غير أن النقاش الحقيقي، كما يشير ثيسن، يجب ألا يكون حول ما إذا كانت الضربة الثانية “بربرية”، بل حول الإطار الأوسع لاستخدام القوة في غياب إعلان حرب من الكونغرس. هل يمكن وصف مهربي الكوكايين ب“الناركوتيرورست”؟ وكيف تنطبق قوانين الحرب على من لا يلتزم بها أصلاً؟ أسئلة معقّدة تستحق نقاشاً جدياً.
لكن الأهم، وربما الأكثر إحراجاً لمنتقدي إدارة ترامب، هو أن الضربات المزدوجة ليست ابتكاراً جديداً. فقد استخدم الرئيس باراك أوباما الضربات ذاتها طوال سنوات، وبشكل “روتيني” كما يؤكد مسؤولون سابقون في الاستخبارات العسكرية. كانوا ينفذون “ضربات التوقيع”، أي استهداف أنماط سلوكية تشير إلى نشاط إرهابي حتى من دون معرفة هوية المستهدفين، ثم تنفيذ ضربة ثانية لتصفية من ينجو أو من يتجمع في الموقع. وكان الكونغرس من الحزبين داعماً لتلك العمليات.
هذا يضع رواية “واشنطن بوست” في سياقها الحقيقي: ليست إدانة لمبدأ الضربات المزدوجة، بل محاولة لإظهار سياسة ترامب كأنها خروج خطير على الأعراف. وهو أمر لا يصمد أمام الوقائع.
وربما فقط ربما يدفع هذا الجدل الإعلامي نحو نقاش أكثر جدية حول صلاحيات الرئيس في استخدام القوة، بدلاً من الاكتفاء بحملات التشهير، لكن الأرجح أن كثيراً من وسائل الإعلام ستواصل الهجوم، بحثاً عن “إصابة سياسية” جديدة. وفي حال نجحوا في ضربتهم الأولى، فلن يمنحوا الرئيس، ولا وزير دفاعه، أي هدنة.
* جيمس فريمان