الجينوم: اقتصاد صحي مستدام

نشر في 15-12-2025
آخر تحديث 14-12-2025 | 17:33
 د. حمد محمد علي ياسين

لم تعد مشاريع الجينوم تُصنَّف عالمياً ضمن الإنفاق الصحي التقليدي، بل بات يُنظر إليها كاستثمارٍ استراتيجي طويل الأمد، له عوائد اقتصادية مباشرة وغير مباشرة تمتد إلى ما هو أبعد من القطاع الصحي. 

وفي دولة مثل الكويت، التي تواجه عبئاً صحياً ثقيلاً، متمثلاً بالارتفاع الحاد في الأمراض المزمنة وانتشار الأمراض الوراثية النادرة، يبرز الاستثمار في الجينوم كأحد أكثر الخيارات كفاءة من حيث العائد مقابل الكُلفة. تشير التقديرات إلى أن الأمراض غير المُعدية، وعلى رأسها السكري وأمراض القلب، تستهلك نسبةً معتبرة من الإنفاق الصحي في الكويت، إضافة إلى كلف غير مباشرة ناتجة عن فقدان الإنتاجية، والتقاعد المبكر، والإعاقة طويلة الأمد. هذه الكلفة لا تظهر دائماً في ميزانيات وزارة الصحة، لكنها تُستنزف من الاقتصاد الوطني بصمت. ومع توقع استمرار ارتفاع معدَّلات السكري والسمنة، فإن النموذج العلاجي القائم على التدخل المتأخر سيُصبح أكثر عبئاً، وأقل استدامة. 

من منظور اقتصادي، يوفِّر الجينوم أداة فعَّالة للانتقال من الإنفاق العلاجي المرتفع الكلفة إلى الاستثمار الوقائي منخفض الكلفة نسبياً. فالتشخيص المبكِّر، وتحديد القابلية الوراثية للإصابة، واستخدام العلاج الدقيق... كُلها ستقلل من المضاعفات المُكلفة، مثل: الفشل الكلوي، وبتر الأطراف، ودخول المستشفيات المتكرر. هذا التحوُّل لا يحسِّن صحة الأفراد فحسب، بل يخفف الضغط عن الميزانية العامة، ويُعيد توجيه الموارد نحو مجالات إنتاجية أخرى. أما في مجال الأمراض الوراثية النادرة، فتُظهر البيانات أن الوقاية الجينية تمثل أحد أعلى الاستثمارات عائداً في القطاع الصحي. فتكلفة علاجٍ حالة واحدة من بعض الأمراض الوراثية النادرة قد تُعادل تكلفة تشغيل برنامج فحص جيني وطني لسنوات. 

وتشير دراسات إقليمية إلى أن برامج الفحص الوراثي قبل الزواج أو قبل الحمل قادرة على توفير عشرات الملايين سنوياً، عبر منع ولادة حالات تحتاج إلى علاجٍ طويل الأمد، أو تدخلات دوائية عالية الكلفة. 

من زاوية اقتصادية بحتة، الوقاية هنا ليست خياراً أخلاقياً فقط، بل هي قرار مالي رشيد. إضافة إلى ذلك، فإن الاستثمار في الجينوم يحمل بُعداً اقتصادياً تنموياً. فبناء بنية تحتية جينومية وطنية سيخلق طلباً على الوظائف عالية المهارة في مجالات التحليل الجيني، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي الطبي، ويحفِّز قيام صناعات حيوية محلية، بدل الاعتماد الكامل على الاستيراد. كما سيفتح الباب أمام شراكات بحثية وصناعية دولية، ويُعزز مكانة الكويت كمركزٍ إقليمي للطب الدقيق. 

وتُظهر التجارب الدولية أن قطاع الجينوم يولِّد أثراً اقتصادياً مُضاعفاً، حيث لا تقتصر الفائدة على القطاع الصحي، بل تمتد إلى التعليم، والبحث العلمي، وسوق العمل والابتكار. وهذا ما يجعل الجينوم استثماراً في رأس المال البشري بقدر ما هو استثمار صحي. 

إن الاستثمار في مشاريع الجينوم بالكويت ينبغي ألا يُقاس كتكلفة إضافية على الموازنة، بل كأداة لإعادة هيكلة الإنفاق الصحي، وتقليل الالتزامات المستقبلية، وبناء اقتصادٍ معرفي أكثر مرونة واستدامة. وفي ظل التحديات الصحية المتسارعة، فإن تأجيل هذا الاستثمار لا يعني التوفير، بل يعني ببساطة دفع فاتورة أكبر في المستقبل.

back to top