شظايا الهوية! *
لا تصدمك مثل تلك الأسئلة المبطنة عندما تأتي من شخص لا يعرفك أو شخص عابر، لكنها حتماً توقف الحوار وتضع فواصل بين الأحرف أو ربما أسواراً تفصل الكلمة عن الأخرى وتفكك اللغة.
المشهد أو السؤال صدمك مرة عندما كان الحديث عن التحولات في سورية ولبنان وانطلاقات بوادر المرحلة الجديدة من المشروع الصهيوني تحت مسميات عدة.
سقط السؤال كما غيره، إلا أن الفرق كان أن من طرح السؤال إعلامي وصحافي مخضرم كما يسمونهم. بل كان كاتباً ومحللاً للمشهد السياسي في الخليج والدول العربية على مدى عقود. كان سؤاله بعيداً عن موضوع الندوة حيث ترك المشروع الصهيوني والإبادة في غزة والعربدة الإسرائيلية في سورية ولبنان واليمن وغيرها، وركّز على مواضيع أخرى ودول، غامزاً من جهة الهوية العرقية والدينية ربما!
بعدها بفترة طويلة، جاء سؤال من شخص مرهف وأديب وشاعر وكاتب وهو الآخر مخضرم أيضاً! وكان السؤال منحصراً في الطائفية والهوية وبعيداً عن المشهد العام، ومحور الحديث الذي كان حول الانتهاكات في مجال حقوق الانسان في بعض الدول التي شهدت تحولات في قياداتها السياسية او أنظمتها. هو الآخر أنكر جرائم القتل والتنكيل وراح ينبش خلف الهويات الضيقة. راح يسأل عن تلك الطائفة وغيرها وحصر الأمر مرة أخرى في الهويات الصغيرة المقسمة لأي مجتمع والتي أصبحت مادة دسمة في يد الإعلام «الموجه» ووسائل التواصل الاجتماعي «المجيشة» التي ساهمت في تحويل الهوية إلى هويات تفرق لا تجمع.
لم ير مما يحدث سوى تحولات طبيعية في مجرى بناء الدولة الحقيقية الذي تأخر في كثير من دول المنطقة لأسباب ليس مجال شرحها هنا. هو الآخر شرع الأبواب للبحث عن مفهوم الهوية وكيف تحول من هوية جامعة إلى هويات تقسم وتفتت المتفتت وتصبح مادة دسمة في يد الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي «الموجهة» لتزيد من حجم الانقسام وتصبح الهوية أصغر من خرم في حائط.
لم تكن الهوية، في أصلها، مشروعَ صراع. وُلدت بوصفها تعريفاً للذات، وجسراً بين الفرد ومحيطه، ومظلّة انتماء تمنح الإنسان شعوراً بالمعنى والاستمرارية. كانت الهوية الثقافية أو الدينية أو الوطنية إطاراً جامعاً، يسمح بالتنوّع داخله، لا سكيناً تُجزّأ، بل ربما تذبح بها المجتمعات.
غير أن التحوّل الأخطر الذي شهده عالمنا المعاصر هو انتقال الهوية من كونها فضاءً للانتماء إلى كونها أداة تُدار سياسياً لإنتاج الفرقة والاقتتال.
وربما قدم «الربيع العربي» مثالاً صارخاً على هذا المسار حيث انطلقت الانتفاضات الأولى بشعارات جامعة: الكرامة، الحرية، العدالة الاجتماعية، دولة القانون.
لم يكن سؤال الهوية حاضراً في الميادين، ولم تكن الانتماءات الفرعية هي المحرّك. لكن ما إن تعثّر الانتقال السياسي، وتقدّمت مشاريع السلطة المضادة، حتى جرى استدعاء الهوية كسلاح. تحوّلت الثورات إلى صراعات داخلية، وتبدّل الصراع من مواجهة الاستبداد إلى اقتتال بين مكوّنات المجتمع الواحد، كلٌّ باسم «حماية هويته».
في سورية ولبنان، واليمن، وليبيا، والعراق والسودان، وغيرها رأينا كيف تُدار الهوية لا بوصفها حقيقة اجتماعية، بل كأداة تعبئة وتخويف. صارت الطائفة بديلاً عن الدولة، والعرق بديلاً عن المواطنة، والانتماء الضيق بديلاً عن العقد الاجتماعي.
ومع غياب الدولة العادلة، تصبح الهوية الملاذ الأخير، لكنها ملاذ هشّ، يتحوّل بسرعة إلى قيد وسجن بل تصبح وسيلة لضرب أي مشروع طمحت وتطمح له الشعوب في المنطقة من النهوض بمفهوم الدولة الحاضنة، العادلة والجامعة بدلاً عن النخب السياسية التي تحكم فتقسم أو حتى الفضاءات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي والجيوش الإلكترونية التي أصبحت مهمتها الرئيسية هي تفكيك المجتمعات، وزراعة الشكوك بين المواطن والمواطن، بل وخلق أجواء من الكراهية والخوف من «الآخر» حتى يصبح العيش المشترك وهماً والتعددية خطراً على ما يسمونه «هوية الوطن» حسب مفهومهم المحصور في مصالحهم الضيقة أو ربما مشروعهم السياسي!
وهنا تتحول الهوية أو الهويات من كونها مصدر غنى حضاري في أي مجتمع إلى مشروع تفتيت سياسي وثقافي قابل أحياناً للتحول إلى حرب أهلية كما حذر ابن خلدون منذ عصور، وجاء بعده بعقود أمارتيا سن ليعيد التأكيد على أن الانسان لا يختزل في هوية واحدة، لأنه كائن متعدد الطبقات والانتماء الواحد حين يفرض، يتحول إلى قفص يدار ويغذى من قبل أجهزة مختصة حتى تفقد المجتمعات الصغيرة منها والكبيرة قدرتها على العيش معاً! أما حسن أوريد في كتابه الجديد «فخ الهويات» فيفتح أبواباً واسعة لإعادة النقاش حول الهوية وما تحمله من قدرة على الجمع أو التفرقة والتمزق المدمرين! حيث تصبح الهوية الضيقة بديلاً عن المواطنة والعدالة وستاراً لإخفاء فشل الدولة!