كنوز البصيرة (5): الصحبة ميزان الجوهر
يبدأ ميزان العلاقات بكلمة جامعة قالها رسول الله ﷺ: «المرءُ على دينِ خليله، فلينظر أحدُكم من يخالِل».
فالنبي ﷺ يؤسس القاعدة الكبرى، أن الإنسان يتشكّل بمن يُرافق. فالصحبة ليست بالكثرة، بل بما ترتقي به نفسك.
ثم يأتي عليّ بن أبي طالب ليُضيف ملمحاً أدقّ من ملامح هذا الميزان فيقول: «لا خيرَ في صُحبةِ مَن لا يرى لكَ مثلَ الذي يرى لنفسه».
ليس الحديث عن صداقةٍ عابرة، بل عن معيار النفوس في العلاقات.
المقصود ب «لا يرى لك مثل الذي يرى لنفسه»، أي لا يقدّرك بقدر ما يقدّر ذاته... ولا يمنحك من الاحترام والمودة ما يمنحه لنفسه، فهو لا يعرف معنى الصحبة والإخلاص، بل يعيش في دائرة الأنانية، حيث كل شيء يدور حول مصلحته فقط.
فلا خير في صحبته، ليس لأنّه سيّئ، بل لأنّ العلاقة غير عادلة.
فهو لا يعرف جوهر الصحبة ويعيش في دائرة لا تتسع إلا لذاته.
فالذي لا يرى لك مثل الذي يرى لنفسه: يراك منافساً، لا رفيقاً. يستنزفك عاطفياً وذهنياً، يفرح لحزنك ولا يحتمل نجاحك.
فالقلوب العالية لا تخشى صعود غيرها، بل تفرح بأن تصعد الأرواح معاً... وما فائدة صحبة لا تزيدك إلا تعباً؟ ولا تمنحك إلا شعوراً بالنقص؟
فهي انعكاس لذاتك، يرى لك مثل الذي يرى لنفسه، جديراً بالفرص، بالاحترام... بالنجاح، وبالخير الذي يتمناه لك كما يتمناه لنفسه... فالصداقة ليست عطاءً من طرف واحد.
والصحبة الحقيقية لا تُشعرك بأنك في اختبار دائم لإثبات نفسك.
ولا خير في مرافقة من يُحبّ أن يبقى عالياً وأنت دونه.
فالصحبة الصادقة ترفعك... لا تخذلك. فالعلاقات ليست بكثرة من حولك، بل بقلب صادق، يحبّ لك مثل ما يحبّ لنفسه.