ضع الهموم خارج السور
لفت انتباهي مقطع عابر لأحد الأساتذة التربويين يقول فيه عبارة حكيمة في «التربية»، وكأنه يختصر كثيراً من أزمات التعليم المعاصر، يقول: «إن المدرسة تحتاج لمعلم منشرح متفائل، أكثر من حاجتها لمعلم محترف».
إن هذه العبارة على وجازتها، تحمل فهماً عميقاً لطبيعة العملية التربوية، فالمعلم الممارس يعلم مدى أهمية السلامة النفسية، فللأسف، إن أغلب المناهج الجامعية والدورات التدريبية تسلط الضوء على الخطط الاستراتيجية وطرق تدريس المناهج والتدريب والمراحل العمرية، ولا يسلطون الضوء على المعلم نفسه، وكيف يحافظ على سلامه النفسي من التشوّهات.
لقد ظللنا طويلاً نلهث خلف تطوير المهارات، ورفع الكفايات، وتعزيز أساليب التدريس، وهي أمور لا خلاف على أهميتها، فالمعلم لا يكون متخصصاً إذا لم يتقن هذه المهارات، لكن ما الفائدة من كل ذلك إذا كان يقف أمام طلابه وهو محبط، ومرهق النفس، فاقداً رغبة العطاء، فالطالب لا يتأثر بما نعرفه بقدر ما نَشعر به، وما نُشعره به. وكما يقولون في المثل الغربي: «قد ينسى الناس ما قلته لهم، لكنهم لن ينسوا أبداً كيف جعلتهم يشعرون».
يقول أحد المعلمين تذكّرت تلك العبارة بعد موقف صغير حدث معي قبل أيام وأنا داخل إلى المدرسة، رأيت فصل 11 علمي يستعدّون للذهاب في رحلة مدرسية، وما إن رآني أحد الطلاب حتى أسرع إليّ بابتسامة واسعة وقال: لم أشعر بالسعادة وانشراح النفس في هذا اليوم إلا عندما رأيتك يا أستاذ عادل، وأشعر الآن بأن نفسيتي أجمل، فما سر جمال روحك يا أستاذ؟ «وكان طالباً في الإذاعة المدرسية، يجيد التعبير. يقول فابتسمت وقلت له: أنتم اليوم سعداء لأنكم تستعدون للرحلة في هذه الأجواء الجميلة، فقال: لا... أبداً، إنها طاقتك الجميلة وبهجة روحك التي تشع في المحيط وتؤثّر في كل من حوله، فأخبرني ما هو هذا السّر يا أستاذ؟... يقول توقّفت عند كلماته، فأنا بخبرتي أميّز بين صدق القول والمجاملة، وشعرت حينها بمسؤلية أكبر، وأعتقد أن الأمر لم يكن يتعلق بدروس مميزة، أو بشرح قدمته، أو بمعلومة أضفتها إليه. كان الأمر متعلقاً بحضور نفسي بهيج، وطاقة إيجابية كنت أحاول أن أحافظ عليها من صدمات الحياة اليومية لأستمتع بها مع طلابي، واعتقد أن هذه هي الروح الطيبة التي يتحلى بها كل معلم محب لعمله، حين يدخل للفصل أو يراقب في الممرات والساحات.
أعزائي القرّاء، إن رأسمال المعلم في هذا الزمن هو المحافظة على سلامه الداخلي، وإظهار روح التفاؤل والنفس البهية، رغم الظروف والضغوطات، لأن المحتوى التعليمي في منصات التواصل قد ينافس معلومات المعلمين وحصيلتهم المعرفية، ولكنه لن ينافسهم بالحضور الحي الذي يعيشونه مع طلابهم. فقد تتحول بعض لحظات التألق بين المعلم وطلابه إلى لحن متناغم لا تودّ أن ينتهي، فالمعلم البشوش لا يدرّس فقط، بل يبثّ طمأنينة، ويصنع بيئة تعليمية شيّقة، ويحوّل المدرسة من محطة للأوامر والنواهي والواجبات إلى ساحة تنمو فيها النفوس قبل العقول.