حسرة على زمن مضى
شوارع طويلة ممتدة تتلاصق فيها السيارات كأجساد أفاعٍ لا تعرف أين تبدأ رؤوسها وأين تنتهي أذنابها، كوابيس من الأسفلت والحديد اشتبكت ببعضها لترسم صورة شوارعنا الخانقة. الدائري الخامس، الدائري الرابع، كل الدوائر مغلقة في بلد مختنق تماماً بزحمة هذا الجنون من السيارات، لا يوجد أحد في عربات قطارات الكآبة يعرف الآخر، الكل غريب.
أين اختفت ساحات الأمس؟ أين رحلت فرجان أيام زمان؟ اندثرت مع مدنية بني نفط الخاوية، فرضت الغربة على أهل الوطن، فلا أحد له شأن بالآخر، ما يهم أنك وأسرتك مطمئنون الآن، ربما سمعتم عن أسرتي زيد وعبيد، يقولون إنهم لم يعودوا مواطنين، عرفتم الخبر «صدفة» من الجريدة الرسمية... ماذا حدث لهم...؟ لا ندري... يقولون ويقولون... لا ندري ماذا يقولون لكننا نعلم أنهم قالوا أمراً ما... لا يهم... نحن بخير الآن... لا ينقصنا شيء.
المجمعات القلاعية مفتوحة ترحب بالمتسوقين... في مدن الأسمنت هذه، السائرون والجالسون في المقاهي لا يتسوقون... هم يجلسون ويتفرجون... الجيب لم يعد كما كان... تكلفة الحياة أضحت صعبة... لكن ليس هذا بذي شأن... الغلاء في كل مكان بالعالم... ما لم تجد لك مكاناً بسيطاً في «دكا» أو قرية هندية صغيرة يمكنك أن تحيا به وتصبح عندهم «إيلون ماسك» الخليجي.
لا يوجد عمل غير الفرجة... لا تملك غير الفرجة... فيها نعمة وبركة... هناك تغيير وتجديد حين تشاهد نماذج من البشر، بعضهم يختلف عن الآخر... أبداً... لا يوجد خلاف... كلهم نماذج تسير ك «روبوتات»... اجلس وتفرج فستجدد حياتك الهرمة... الزمن يجري... ونهاية الطريق أكيدة تعرفها وتحاول أن تنساها... لا تحاول... لحظة الباي الباي قادمة.
فرح النقيب قالت منذ سنوات في كتابٍ لها عن التغيرات التي حدثت بعد النفط... حللت وفككت الكثير من عقد الانغلاق بين المواطنين وغير المواطنين، ثم بين المواطنين أنفسهم وعزل بعضهم عن بعض... لم ينصت لها الكثيرون... قالت: «... كانت المدينة بنية عضوية متشابكة، أسواق، ساحات، سواحل وأحياء، تشكل فضاء عاماً غنياً بالاختلاط والتعاون، حيث كان السكان متنوعين عرقياً ومذهبياً واجتماعياً، لكن تحكمهم شبكات القرب والاعتماد المتبادل...». انتهى كل هذا... الآن لا شيء غير شوارع الأفاعي المزدحمة بالسيارات المتلاصقة... لا ساحات ولا مكان للتنفس... الناس انطوت على ذاتها... لا يوجد جيران... لا يوجد أناس تعرفهم... لا أحد يعرف أحداً... ليست نوستولوجيا عن الماضي... هي حسرات على ضياع فريج وساحة ترابية...