أبراج فوق الصدور
ألهم «البانوبيتكون» خيال الفيلسوف فوكو، فأضحت قضايا حريات الضمير، ورقابة السلطة وقمع الأفراد وتدجينهم ليصبحوا آلات ميكانيكية خالية من الروح، لا تعرف غير تلقّي الأوامر التي تنفذها بصورة آلية، هي القضية الكبرى عند ذلك الفيلسوف الفرنسي الذي لم يعِش طويلاً ليشهد فيما بعد رقابة السلطات السياسية تتابع البشر عبر أجهزة التليفون، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تملي عليهم ما يجوز وما لا يجوز، تحذرهم وتتوعدهم بأن عين القانون ساهرة، لا على راحتهم وطمأنينتهم، وإنما على حركة القلم والكيبورد الذي يكتب ويسجل الخواطر التائهة.
«البانوبيتكون»، كما اقترحه الفيلسوف الإنكليزي بنتهام في القرن التاسع عشر، هو برج يقام في وسط ساحة السجن، وفي ذلك البرج يمارس حراس السجن الرقابة على السجناء بكل تفاصيل حياتهم داخل الزنازين، لا يدري السجناء كيف تتم الرقابة، لكنهم يعلمون بها، وبمرور الوقت يصبح السجناء مدجنين تماماً، تصبح قضية الحرية لا معنى لها، فالرقابة الدائمة تذيب وتمحو الشخصية الإنسانية التي جُبِلت بطبيعتها على الحرية، البشر هنا أرقام، يُقادون كما يملي عليهم راعي القطيع، لا يعرفون غير الطاعة، لا مكان للرفض.
تلك الرقابة السلطوية التي أسهب في شرحها فوكو، تتمدد لا إلى السجون فقط وإنما للمدرسة والمصنع والمستشفيات العقلية... الغاية منها وأد أي أمل للاعتراض والرفض الإنسانيين، بحث تاريخي معمق في أصول الرقابة، نجد صورها في رواية أورويل (1984)، أو هكسلي في رقابة الطاعة الناعمة برواية عالم جديد وشجاع، تطيع وأنت راضٍ تماماً عن حالة العبودية.
فوكو ومن جاء بعده من عمالقة الفكر لم يتعرفوا بالتفصيل على «البانوبيتكون» العروبي، صفعة ضابطة الشرطة التونسية لبائع الخضار «بو عزيزي» عام 2010 فجّرت أبراج «البانوبيتكون» في عالمنا ذلك الوقت، لكن برج الرقابة المرعب يعود من جديد ليجثم على الصدر العربي بعد فترات ربيع قصيرة، فقد كان للتمرد الثوري عام 2011 جولة، وإنما لقوة وهيمنة رأس المال جولات، لتعيد بناء آلاف أبراج البانوبيتكون فوق جسد هذا العالم العربي.