قطر وإعادة تعريف العدالة
في تصريح يتجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية إلى مربع الموقف الأخلاقي الواضح، قال رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبدالرحمن آل ثاني «إن بلاده لن تدفع أموالاً لإعادة إعمار قطاع غزة»، مشدداً على أن «من دمّر هو مَن يجب أن يدفع كلفة الدمار، وأن الأموال التي سترسلها قطر هي للشعب الفلسطيني».
تصريح مختصر في كلماته عميق في دلالاته، وصادم في وضوحه لمن اعتادوا لغة الالتفاف، فالمنطق البسيط يقول إن الفاعل لا يمكن أن يُعفى من تبعات أفعاله، وإن العدالة لا تكتمل إذا نقلت الفاتورة من المعتدي إلى الضحية أو إلى أطراف ثالثة، لكن هذا المنطق الواضح في كل قوانين الأرض يتعثر حين يكون الحديث عن قطاع غزة.
المفارقة الصارخة أن الغرب نفسه طبّق هذا المنطق بحزم حين تعلّق الأمر بروسيا بعد حرب أوكرانيا، حين فرضت العقوبات وجمدت الأموال وطرحت علناً فكرة استخدام الأصول المجمدة في إعادة الإعمار.
لم تطرح آنذاك إشكاليات التوازن، ولا تعقيدات السياق السياسي، وكان القرار مباشراً، المعتدي يدفع، لكن هذه القاعدة ذاتها تختفي حين يكون الطرف الآخر هو إسرائيل لا عقوبات بحجم الجريمة، ولا تجميداً جاداً للأموال، ولا إلزاماً حقيقياً بالتعويض، بل بيانات قلق ومسارات سياسية طويلة ومؤتمرات مانحين يطلب فيها من الدول الخليجية وشعوب المنطقة تمويل إعادة بناء ما دمره القصف الإسرائيلي.
من هنا لا يمكن قراءة الموقف القطري بوصفه مجرد رأي سياسي عابر بل باعتباره محاولة جادة لكسر معادلة دولية مختلة تحمّل الضحية الكلفة، وتبقي الفاعل خارج دائرة المساءلة.
تصريح رئيس الوزراء القطري يفتح سؤالاً مركزياً: لماذا تمارس العدالة الدولية حين تكون في مصلحة القوى الكبرى وتعلق حين تحرج حلفاءها؟ إن مطالبة من دمّر غزة بتحمل مسؤولية إعادة إعمارها ليست تصعيداً سياسياً بل استعادة لبديهيات القانون الدولي، وقاعدة أخلاقية لا تستقيم الحروب دونها، فإعادة الإعمار ليست منة ولا فعلاً إنسانياً اختيارياً إنما التزام قانوني وأخلاقي على من أحدث الدمار.
قطر هنا لا تتحدث بلغة المعارضة بل بلغة المبدأ، فالمبدأ يقول إن الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار فقط بل بتحمل نتائجها، وإن العدالة لا تُجزأ، فإما أن تطبق على الجميع أو تبقى مجرد شعار يستخدم حين يخدم الأقوياء، ويسقط حين يفضح ازدواجيتهم.