حين تتحوّل المنصّات إلى سلاح ابتزاز علني
في السنوات الأخيرة ظهر على السوشيال ميديا جيل جديد من “المرتزقة”، وجوه لا تحمل فكراً ولا مشروعاً ولا قيمة، لكنهم يحملون جرأة رخيصة وقدرة عالية على صناعة الاستفزاز.
لا يهمهم بناء وعي أو تقديم محتوى، همّهم الوحيد هو جرّ المجتمع إلى ردود فعل غاضبة لاستثمار هذه الردود في قضايا تُرفع ضد أي مواطن، بهدف تحقيق مكاسب مالية أو زيادة شهرة.
إنها تجارة الابتزاز الإلكتروني... لعبة حديثة لبس فيها البعض رداء الضحية بينما يمارسون أبشع أشكال الاعتداء المعنوي على الناس.
المؤثر الحقيقي يصنع قيمة، أما هؤلاء فيصنعون مشاكل.
ينشر أحدهم مقطعاً مسيئاً أو تغريدة مستفزّة، يعرف تماماً أنها ستغضب الناس، وحين يأتي أول تعليق عفوي أو جملة ضجر، يتحوّل بقدرة تمثيل عجيبة إلى «الطرف الضعيف المظلوم» الذي يهرول إلى النيابة لرفع قضية، وفجأة يصبح صاحب الإساءة هو الضحية، ويصبح المواطن الذي انفعل طبيعياً هو الجاني.
وهذا قلب كامل للمعادلة الأخلاقية والقانونية، فالضحية الحقيقية ليست تلك الوجوه التي تبكي أمام الكاميرا، بل المجتمع، والضحية هو المواطن الذي يُستدرج عمداً لإيقاعه في فخ قضائي.
الضحية هو القانون الذي يُستخدم كأداة ربح.
الضحية هو الوعي العام الذي يُعبَث به يومياً من دون رادع.
هذه الظاهرة ليست حرية تعبير... إنها فوضى مقصودة.
هؤلاء لا يبحثون عن نقاش، بل عن قضايا جاهزة ولا يريدون رأياً مخالفاً، بل يريدون «طرفاً يخطئ» كي يُحمّل ذنبه أمام المحكمة بينما هم يصفّقون لنجاح خطتهم.
ولأن مسؤوليتنا المجتمعية تفرض موقفاً واضحاً، فإنني أقولها بحدة لا تحتمل التأويل: من يستفز الناس عمداً، لا يحق له الاختباء خلف القانون، ومن يمارس الابتزاز الإعلامي، يجب أن يُعامل كمعتدٍ لا كضحية، ومن يتاجر بالبلاغات، يجب أن يُحاسب بموجب قانون يجرّم البلاغات الكيدية وسوء النية.
وهنا تأتي كلمة مهمة لابد من قولها: أدعو إخواني المحامين بكل تقدير إلى عدم التفاعل معهم نهائياً.
لا تمنحوهم شرعية، ولا منصة، ولا فرصة لتحويل القضاء إلى أداة ربح أو أداة شهرة.
بعض هؤلاء يبحث عن محامٍ يصدّق مسرحيته، ثم يزجّ به داخل لعبة تافهة تُهين صورة المهنة، وتُرهق المنظومة القضائية، وتحوّل المحامي نفسه إلى قطعة داخل آلة عبث يقودها شخص لا يحترم المجتمع.
المحامي الحقيقي هو خط الدفاع الأول عن العدالة... لا يكون شريكاً في محتوى رخيص، ولا جزءاً من مخطط استدراجٍ يستهدف المواطنين.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة: المجتمع الذي يحترم نفسه لا يسمح لمرتزقة السوشيال ميديا أن يتحكّموا في مزاجه، ولا أن يستخدموا القانون كحصالة مالية، ولا أن يعبثوا بكرامة الناس وهم يختبئون خلف فكرة “حرية التعبير”.
لقد حان الوقت لإعادة الهيبة للمنصّات... وإعادة الاحترام للقانون... وإيقاف هذا العبث قبل أن تتحوّل السوشيال ميديا إلى غابة يديرها الأسوأ، ويُعاقَب فيها الأفضل.