لماذا تحتاج الكويت إلى مشروع الجينوم الآن؟! (2-2)
في الجزء الأول تناولنا التحديات الصحية والاقتصادية التي تجعل من مشروع الجينوم ضرورة وطنية، وبيّنا كيف يمكن للطب الدقيق أن يغيّر طريقة تشخيص الأمراض وعلاجها. إلا أن مشروع الجينوم لا يُعد مشروعاً صحياً فقط، بل رافعة بحثية واقتصادية قادرة على إعادة تشكيل مستقبل الكويت العلمي. إن دمج مشروع الجينوم في المنظومة الصحية الكويتية سيُحدث نقلة نوعية في بناء القدرات الوطنية في مجالات علم الجينات والمعلوماتية الحيوية والذكاء الاصطناعي الطبي، ما سيخلق جيلاً جديداً من الباحثين الكويتيين القادرين على قيادة مشاريع وطنية ضخمة وتحليل البيانات السكانية وتطوير حلول صحية متقدمة. ويُعد الجينوم منصة مركزية لأي بيئة بحثية حديثة، إذ يسمح بإنشاء قواعد بيانات سكانية، وتطوير أدوات تشخيص مخصّصة للمجتمع، وفتح مسارات بحثية جديدة في الأمراض الوراثية والمزمنة على حد سواء. وتُظهر تجارب دول صغيرة الحجم، مثل سنغافورة، أن الاستثمار المبكر في العلوم الحيوية قادر على تحويل الدولة إلى مركز علمي واقتصادي عالمي. فبين عامي 2000 و2020، تحولت سنغافورة من اقتصاد يعتمد على الصناعة التقليدية إلى دولة رائدة في التكنولوجيا الحيوية، بعد إنشاء مشروعات كبرى مثل A*STAR، ومدينة «Biopolis»، وإطلاق خطط وطنية للبحث والابتكار. نتج عن ذلك قطاع حيوي يضم أكثر من 60 مصنعاً متخصصاً و30 مركز أبحاث و330 شركة محلية، إضافة إلى شركات ناشئة مثل Mirxes التي بدأت كمشروع بحثي صغير ثم تحولت إلى شركة تضم أكثر من 400 موظف وتبيع تقنيات تشخيص للسرطان حول العالم. هذه النماذج توضح أن الاستثمار في مشروع الجينوم لا يهدف فقط إلى تحسين صحة المواطنين، بل إلى بناء اقتصاد معرفي يعزز مكانة الدولة العلمية ويقلل اعتمادها على الخارج، ويخلق فرص عمل نوعية للشباب الكويتي، ويفتح الباب أمام شراكات عالمية في التكنولوجيا المتقدمة. ومن النتائج المباشرة للمشروع أيضاً تطوير برامج فحص جيني قبل الزواج أكثر دقة، مما يساهم في الوقاية من الأمراض النادرة، على غرار التجربة المطبقة في أبوظبي. كما يسمح دمج الجينوم في فحص حديثي الولادة بالكشف المبكر عن العديد من الأمراض القابلة للعلاج، مما يمنع الإعاقة ويقلل عبء المرض على مدى الحياة.
ختاماً، يمثل مشروع الجينوم استثماراً في الإنسان وفي مستقبل الكويت الصحي والاقتصادي. إنه مشروع يربط بين الرؤية الوطنية للارتقاء بالرعاية الصحية وبين بناء اقتصاد معرفي متطور يعزز الهوية العلمية للدولة. مشروع الجينوم ليس مشروع مختبرات... إنه مشروع وطن يبني قدراته ويصنع مستقبله.