الغياب الذي امتلأ حياة *

نشر في 08-12-2025
آخر تحديث 07-12-2025 | 17:20
 خولة مطر لا نعرف الموت رغم كثرته في كل زوايا حياتنا، نسمع طَرقه على الأبواب، نلمح ظله يمرّ سريعاً بين العابرين، نحسه يقترب من حواف أيامنا، ومع ذلك نظلّ عاجزين عن فهمه. نعيش معه بلا لغة مشتركة، وبلا خبرةٍ تمنحنا القدرة على استقباله بحكمة أو اتزان. الموت يفاجئنا دائماً، حتى حين يكون متوقعاً؛ يربكنا، يخلخل يقيننا، ويُعيد ترتيب كل ما حسبناه ثابتاً في حياتنا. عندما رحل عزيز، بل أعز عزيز، عادت كل الوجوه الحبيبة تطاردنا ربما كانت تستعد لاستقباله؟ أو ربما لتقول لنا: لا تخافوا فقد عبر ليكون معنا ولم يترككم ولم يتركنا ربما!
وربما الأصعب ليس الموت نفسه، بل ما يتركه في أرواحنا من فراغ. فراغ يشبه حفرة لا نعرف كيف نملؤها، فنعود إليها في كل ليلة، نحاول أن نُعيد بناء الوجوه التي غابت، ونستنطق الأصوات التي صمتت. وحين يرحل أحد الأحبة، تعود الثواني محملة بكل ما عشناه معهم لحظة بلحظة، ضحكة هنا، تعليق عابر، يد تربت على كتف، دموع وبكاء على كل من أحب، وخوف عليهم كلهم وقلق دائم، أو نظرة حملت ما هو أعمق مما تنطقه الكلمة.
رحل عزيز الذي خلق معنى الصداقة التي تنمو بلا ادّعاء، بلا شروط، بلا مسافات. كان حضوره يشبه نسمة بحرية، تأتي في لحظة تعب، فتُنعش الروح وتذكّرها بأن العالم لا يزال يحتفظ ببعض طيبه، بل كل الطيبة، ومعه يسكن الصدق ويفصل، بل يخيط كل العلاقات بإبرته الحساسة ويغنيها عن كل ما عدا ذلك وربما يكشف عورة العلاقات العابرة المغلفة بألوان وزركشة وابتسامات باهتة...
عشق لبنان كما لو أنه ولد فيه. كان يجول في أزقته كمن يبحث عن تفصيل صغير فقده منذ زمن، وكثيراً ما يعرفه أكثر من بعض اللبنانيين، يعتلي جباله، ويتنفس من شواطئه، ويقرأ تاريخه في حجارة بيوته العتيقة. كان يرى فيه شيئاً من روحه، كما لو أن تلك البلاد رسمت جزءاً من ملامحه. ومع رحيله، صار لبنان أيضاً يحمل غصّة أخرى، ورائحة غياب لا تخطئها الذاكرة، أو أصبح لبنان جزءاً من جمال تلك الروح التي عرفت الجمال بنقش الحرية وكثير من الضحك والحب والفرح. هو من أتقن كل ذلك وعشق الحياة بين رائحة الأقمشة ومقصات الخياطة.  بل وحتى وهو في لحظاته الأخيرة كان يجد مساحة للمسة قماش عرفه، وسخرية كانت ملاصقة له كجلده.
عندما يرحل واحد منهم، من أحب الأحبة، تحضر جميع الوجوه دفعة واحدة: الذين غابوا قبلهم، والذين بكيناهم، والذين لم تمنحنا الأيام فرصة الحداد الحقيقي عليهم. يعودون واحدًا بعد الآخر، يجلسون في زوايا الذاكرة، يتزاحمون على القلب، وكأن الموت حين يختار شخصًا واحدًا، يفتح الباب لكل الغياب المؤجل. كأنه يقول مرحى لهم فهم مع أناس أكثر صدقاً وجمالاً ومحبة...
ضحكاتهم تصبح أعلى في الليل. في العتمة، نسمع الصوت كما لو أنه لم يغب قط. ابتسامة هنا... تعليق هناك على برنامج أسبوعي اعتاد أن يمنح الفسحة في يومه له، وربما مشهد مشترك يعبر الخيال فجأة، فيربكنا مزيج الحنين والألم. نضحك ونبكي في اللحظة نفسها، لأنهم لا يغيبون تماماً، ولأن الذاكرة لا تعرف كيف توصد أبوابها بإحكام...
وهكذا... نعيش مع الموت كمن يمشي في طريق يعرف أنه سيعود في يوم ما إلى نقطةٍ مجهولة. لا نفهمه. لا نُحسن التعامل معه، لكنه يفرض حضوره علينا. وما يبقى لنا، بعد كل رحيل، هو أن نحفظ الحب، ونصغي للذكرى، ونترك القلب مفتوحاً لأولئك الذين لا يغيبون حقاً... لأنهم حين رحلوا، تركوا في أرواحنا حياة أخرى لا تموت. أو نعيد ضحكاتهم وسخريتهم وعباراتهم وأقوالهم وتعليقاتهم ومحبتهم التي وزعوها على الكون حتى أصبح كل من يمر دربه يردد هذا صديقي، بل أخي، بيننا ذكريات خاصة سنحتفظ بها ويرى كل واحد منهم أن في حياة عزيز مساحة له وفي قلبه مساحات كسهول واسعة مليئة بزهور من كل بلدة، أو قرية أو مدينة أو شاطئ مر به وأحبه. في غيابه ملء لحياة، بل حيوات تركها ربما حتى لا نعيش الفراغ الذي يمتلئ بحضوره حتى في الغياب.

* يُنَشر بالتزامن مع الشروق المصرية
back to top