مَن يتعظ؟!
مهما بلغت الدول - أيّ دولة - من درجات التقدّم والرقي، تبقى النزعات العنصرية والفاشية كامنةً في بعض الجماعات، تتوارثها الأجيال كما لو كانت بقايا حمضٍ نووي ثقافي لا يموت.
وفي لحظة غفلة، تتمكّن تلك الجماعات من الوصول إلى الحكم، فيطفو على السطح أبشعُ ما في التاريخ من صور الإقصاء والاستعلاء.
هذا ما يُناقَش اليوم في الولايات المتحدة، التي تجد نفسها أمام سؤال أخلاقي وقانوني خطير:
هل تُعدّ عمليات الإجهاز على الناجين من قواربٍ دمّرتها القوات الأميركية - بحجّة تهريب المخدرات من كولومبيا وفنزويلا - جريمةً واضحة وخروجاً على قواعد القانون الدولي؟ أم أنها، كما يفاخر وزير الدفاع الأميركي «ضرورةٌ لحماية الشعب الأميركي»؟
إن طريقة النظر إلى هؤلاء البشر - الذين لا ذنبَ لهم سوى أنهم وُجدوا على قارب خطأ في توقيت خطأ - بوصفهم «حشراتٍ مزعجة» يجب التخلّص منها، ليست سوى صورة مستعادة من أرشيف العنصرية والكراهية. والمؤسف أنها لم تعد استثناءً، بل باتت جزءاً من لغة إدارةٍ تظن أنّ الأمن يُصنع على جثث الضعفاء.
وفي فرنسا، يتكرّر المشهد، فالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي كان قابعاً خلف القضبان بتهم تلقّي رشاوى، صرخ يوماً: «إمّا أن تحبّ فرنسا أو تغادرها». هكذا ببساطة، خطاب إقصائي مباشر، وجهٌ آخر للفاشية التي تُحوّل المواطنة إلى امتحان ولاء، لا إلى حقٍّ قانوني.
ومع ذلك، لا تزال هذه النزعات - في الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما - مُحاطةً بشبكة من الآليات التي تُبطئ تمدّدها: محاكم مستقلة، مجتمع مدني، منظمات حقوقية. لكنّ السؤال الأهم: ماذا لو نجحت النخب المتشدّدة في ابتلاع تلك المؤسسات نفسها؟
هذا السؤال يُطلّ برأسه اليوم في الولايات المتحدة، حيث تراجع المحكمة العليا شرعية منح الجنسية لأبناء المهاجرين المخالفين لقوانين الإقامة، فإذا قضت المحكمة بإلغاء الحق الدستوري المكرّس بمبدأ «المواطنة بالولادة»، فإنها لن تنسف قاعدة قانونية فقط، بل ستمنح الشرعية لأعتى أشكال الإقصاء.
سنوات ما بعد الحرب الأهلية الأميركية تقدّم درساً لا يُنسى: فإلغاء العبودية لم يُنهِ العنصرية، إذ بقيت قوانين «جيم كرو» تحاصر السود في المدارس والأماكن العامة عقوداً طويلة، فالقوانين قد تتغيّر، لكن الثقافة المتعالية داخل الجماعات المهيمنة قد تبقى راسخة، بل وتستمد قوتها من مزاج سياسي يُغذّي الخوف من الآخر.
الأنظمة والجماعات العنصرية تلجأ دائماً إلى الأسطورة لتبرير استمرارها... أسطورة التفوّق العرقي، أو حقّ منحه «القدر» لفئة دون أخرى، أو وهمُ حماية الهوية من «الدخلاء». وهذه الأساطير ليست جديدة، لكنها - منذ تسعينيات القرن الماضي - اكتسبت طاقة جديدة مع انهيار الأنظمة الاشتراكية وصعود القطب الأميركي الأوحد، مما فتح الباب واسعاً أمام قوميات متشدّدة تعيد صياغة العالم على طريقتها.
إن صعود هذه الفاشيات الجديدة ليس مجرّد انحراف سياسي، إنه دمار كامل الدسم للمستقبل الإنساني.
فالعالم المتشابك لا يحتمل هذه الرؤى الضيقة التي تقسّم الإنسانية إلى درجات، وتحوّل الحدود إلى أسوار نفسية قبل أن تكون جغرافية.
مَن يتعظ؟!