الأحوال الشخصية بين الفقه التقليدي والواقع الحديث

نشر في 07-12-2025
آخر تحديث 06-12-2025 | 19:11
 حمد جاسم الفواز تُعد منظومة الأحوال الشخصية أحد الأعمدة التشريعية الأكثر تأثيراً في المجتمع الكويتي، فهي التي تنظم الزواج والطلاق والحضانة والنفقة والميراث. وعلى الرغم من هذا الدور المحوري، فما زالت منظومتنا القانونية هذه تستند إلى تراث ديني نشأ في سياقات تاريخية واجتماعية مختلفة تماماً عن واقع كويت ما بعد النهضة، وما شهدته من طفرة في التعليم وسوق العمل والاقتصاد وحقوق المرأة والطفل. وفي هذا الإطار، تأتي خطوة وزير العدل الموقر في إعادة فتح هذا الملف وغربلة القوانين كخطوة إيجابية ومهمة يشكر عليها. لقد أثارت بعض الصياغات بقانون الأحوال الشخصية المقترحة جدلاً واسعاً لابتعادها عن المفهوم المعاصر للعلاقة الزوجية، حيث تكرّس بعض النصوص تبعية وامتهاناً لا تتناسب مع الكرامة الإنسانية، مثل تعبيرات «خدمة الزوجة»، و«الاستئذان عند الخروج». إن الاعتماد على المنظومة الفقهية التقليدية وحدها لا يكفي لمعالجة كل القضايا الأسرية المعقدة والمتغيرة، ولا يمكن اعتمادها كمصدر تشريعي وحيد في مجتمع متنوع المرجعيات، فإقصاء الخبرات القانونية والاجتماعية والحقوقية والمشتغلين بالسياسات العامة من جمعيات ونشطاء نساءً ورجالاً أمر مخل، ويعطل من إمكانية تطوير قواعد وتشريعات أكثر إنصافاً ومرونة، فلا يصح احتكار صناعة التشريعات في يد فئة واحدة، وتحييد فئات أخرى قدمت وتستطيع تقديم حلول مناسبة، خصوصاً في المسائل التي لا يستوعبها الفقه التقليدي مثل الزيجات المختلطة دينياً خارج اليهودية والمسيحية للرجال، والقضايا المتعلقة بالإرث وطرق توزيعه، والوصايا للمسلمين وغير المسلمين. ففي ظل غياب إطار قانوني واضح، يلجأ كثيرون للزواج خارج البلاد أو التحايل بإجراءات شكلية (على الورق) لا تعبّر عن قناعة حقيقية، ما يخلق أزمات لاحقة في إثبات الحقوق والنسب والميراث. ورغم ثراء التراث الفقهي وتنوعه بين التيسير والتشدد، تبرز هنا أهمية الحفاظ على «الاجتهادات القانونية» التي أثبتت نجاحها، كحال «الوصية الواجبة» التي طبّقتها الكويت منذ عام 1970، والتي شكلت حلاً اجتماعياً عادلاً، في مواضع لم يكن فيه الفقه التقليدي قابلاً للتغيير أو التنازل للمصلحة العامة. وما نشهده اليوم من محاولة للتراجع عنها أمر غريب وغير مبرر، خصوصاً أن التطور التشريعي ينبغي أن يوسع دائرة الخيارات لا أن يضيقها! لذلك فإن الحل الواقعي هو استحداث مسار مدني -اختياري- مواز لقانون الأحوال الشخصية التقليدي (السني والجعفري) دون المساس به، على غرار ما فعلته الإمارات عام 2022 حين أتاحت الزواج المدني القائم على الأهلية والرضا والشروط، فسهّل حل النزاعات ووفّر إطاراً قانونياً واضحاً، مع الحفاظ على هوية المجتمع الدينية، دون إلغاء الزواج التقليدي «الديني». وقد أثبتت تجارب عربية وإسلامية أن التشريع المدني قادر على استيعاب التحولات الاجتماعية ومعالجة الثغرات الواقعية بالاستناد إلى مقاصد الشريعة في العدل والرحمة، سواء في حماية الأطفال والنساء من العنف، أو في منع زواج القاصرات، أو في إثبات النسب ضمن قواعد قانونية واضحة. إن استحداث مسار مدني في زمن ما بعد الحداثة ضرورة وحاجة لابد منها، ولا يعد خروجاً على الثوابت الدينية كما يشيع البعض، إنما تطوير تشريعي يوسّع الخيارات أمام الأفراد، بما ينسجم مع معتقداتهم الخاصة وأنماط حياتهم، ويعزز العدالة والكرامة والحرية الفردية، وهو اتجاه تتبناه الدول التي تحترم التعددية، وتحمي الأسرة بوصفها خلية المجتمع الأساسية.
back to top