بالمختصر: الديرة من فوق 180 متراً – ذاكرة محقق لا تنام

نشر في 07-12-2025
آخر تحديث 06-12-2025 | 19:09
 د. فهد إبراهيم الدوسري

هناك أماكن ترى فيها العالم... وهناك أماكن يرى العالمُ فيك ما لا تراه أنت. لكن قلّة من الأماكن تفعل الأمرين معاً. أبراج الكويت واحدة منها. على ارتفاع 180 متراً، لا ترتفع فوق الأرض فقط... بل ترتفع فوق الذاكرة. كل شيء يصبح أصغر: السيارات، والبيوت، والناس... إلا الماضي، فهو وحده الذي يكبر كلما ارتفع بك النظر. المشهد: من المنصة الدوارة في أبراج الكويت صعدتُ إلى المنصة الدوارة، ولم أكن أبحث عن منظر الخليج، ولا عن لمعان المدينة في المساء، بل عن نقطة أعلى يمكن للذاكرة أن تنفجر منها بلا خوف. حين دارت المنصة، شعرت أن الكويت تدور معي... من الأعلى... ترى ما لا يُرى من الأرض النظر من فوق 180 متراً لا يعطيك مشهداً جمالياً فقط. بل يعيد رسم الكويت كما يعرفها المحقق، لا كما يعرفها السائح: الأماكن ليست مباني... بل بصمات كل مبنى رأيته من الأعلى أخذ شكل قضية عايشت كل لحظاتها. كأنها نقاط على خريطة دماغي، متصلة بخطوط خفية من قصص بدأت بصرخة... وانتهت بتوقيع محقق. الطرق ليست شوارع... بل مسارات هروب، من هنا هرب القاتل... ومن هنا اكتشفنا الأثر... ومن هنا ضاعت الحقيقة أياماً قبل أن نجدها في قطرة دم صغيرة لا تعرف الكذب. الأحياء ليست مناطق... بل مسارح جريمة، كل حيّ مررت به من الأعلى كان يحمل قضية:  قضية طفل مفقود...  امرأة مختفية... مخزن مخدرات...  اختلاس... أو علاقة ممنوعة انتهت بموت غير مبرر. من فوق، تعود جميعها... لا كصور، بل كنبض. 

 لماذا تستيقظ الذاكرة عندما نرتفع؟ هناك ملاحظة علميّة تربط الارتفاع بالدماغ علم الأعصاب يقول إن الدماغ عند الارتفاع يرى الكل بدل الجزئيات، فينشّط ما يسمى باسترجاع السياق العام. ولهذا:  كل المدينة تتحول إلى خريطة ذهنية موحّدة. القضايا المبعثرة في السنوات تتجمّع في صورة واحدة. الماضي يُقرأ كوحدة، لا كملفّات منفصلة. وهذا يفتح باباً مهماً في ذاكرة المحقق: عندما ترتفع... تربط القضايا ببعضها وما يُنسى في التفاصيل... يعود واضحاً من الأعلى. الذاكرة التحقيقية: زاوية ارتفاع عندما تنظر للمدينة من هذا الارتفاع، يحدث شيء غريب يشبه «منطق الحدس الجنائي»: تربط جريمة في التسعينيات بحادثة في الألفية... وتفهم لماذا اختار الجاني شارعاً لا شارعاً... وكيف ساعده المكان... وكيف خانه المكان ذاته. كأن المناطق كلها تتحول إلى مسرح جريمة واحد، وأنت تراه من مقعد الحكم، لا من مقعد التحقيق. 

 ومع دوران المنصة... دارت سنوات العمر كل زاوية تلفّها المنصة تفتح ملفاً: هنا... قمتُ بأول معاينة ميدانية. وهنا... كتبتُ أول تقرير رفض الجميع تصديقه حتى أثبته المختبر. وهنا... شاهدتُ دماً لم يجف من الذاكرة إلى الآن. وهنا... وقف متهم، وقال «لم أفعل»، بينما بصماته تحكي كل شيء. المنصة تدور... لكن هناك ذكريات ثابتة، لا تتحرك، لا تتزحزح. ذكريات من النوع الذي لا يتركك حتى تترك أنت الدنيا. 

 والسؤال الذي ظلّ معلقًا على ارتفاع 180 متراً: هل نحن من يصنع ذاكرة الجريمة؟ أم الجريمة هي التي تصنع ذاكرتنا؟ هل نحن من يوثق الدم؟ أم الدم هو من يوثقنا في سجلّه؟ هل نطارد المجرمين؟ أم نطارد أنفسنا داخل مشاهد لم يمحَ منها شيء بعد؟ 

 الخاتمة: ذاكرة لا تنام. عُدت إلى الأرض... لكن الارتفاع لم يغادرني. وكأن النظرة من فوق كانت تقول شيئاً لم أفهمه بالكامل: المدن تبدو أجمل من الأعلى... إلا عند المحقق، فهي تبدو أصدق. فالارتفاع لا يعطيك مشهداً... بل يعطيك حقيقة. والحقيقة لا تنام. دمتم بود.

back to top