حبيبةٌ من دخان
لم أكن أنوي الخروج ذلك اليوم. كان يوم جمعةٍ، يوم عطلةٍ أخصّصه عادةً للسكون مع كتابٍ أتنقّل بين صفحاته بطمأنينة، بعيداً عن ضجيج الأسواق وصخب الحشود التي تلتهم هدوء المرء دون أن يشعر. لكنَّ زوجتي رأت الأمر من زاويةٍ مختلفة:«اليوم بلاك فرايدي!»، قالت بنبرةٍ يغمرها الحماس. «يومٌ لا ينبغي أن يضيع... فالناس ينتظرونه طوال العام».
ابتسمتُ، مدركاً أنني خاسرٌ قبل أن تبدأ المعركة، وفكّرتُ أنّ الذهاب معها - ولو رغماً عني - أهون من مواجهة سيل العتب واللوم.
دخلنا السوق الكبير، وكانت الأضواء تتراقص على الأرض، واللافتات تغطي الواجهات، تملأ المكان بصخبٍ وألوان. ضحكات هنا، وأكياس ممتلئة بأيدي الزبائن هناك، ووجوه تتحرك بين الرفوف تبحث عن أي شيءٍ مخفَّض السعر، بغضّ النظر عن الحاجة إليه. مشيت خلفها بهدوء، كمن يعبر مسرحاً صاخباً لا ينتمي إليه... حتى استوقفني مشهدٌ لم أكن أتوقعه.
في زاويةٍ من السوق، كانت غرفةٌ زجاجية صغيرة، المدخنون محشورون داخلها، متلاصقون، يلتفون حول بعضهم كأنهم سجناء بلا قضبان. الدخان يلتف حول رؤوسهم كغيومٍ ثقيلة تختنق بهم ويختنقون بها، بينما العالم من حولهم مفتوحٌ ومتّسع.
حدقت فيهم طويلاً، وشعرت بشيءٍ مألوف... كأنّي أعرف حكايتهم كلها.
كان هناك رجل، جلسته مستقرة، ينفث دخاناً ويبتسم ابتسامةً خفيفة، كابتسامة عاشق يلتقي بمن يحبّ كلما سنحت له فرصة. تذكّرته، وتذكرتُ رجلاً آخر... ربما صديقاً، أو صورةً من ذكرياتي. رجل أحبّ محبوبته ولم تُبادله الحب لحظةً واحدة، لكنها كانت تأكل منه شيئاً فشيئاً، وفي نظره كانت كل شيء.
كانت تأخذ منه ما لا يُرى مباشرة: صحته، طاقته، تنفّسه، سعادته... ومع ذلك، ظلّ يعود إليها. لم تمنحه متعة تقبيلها بشفتيه إلا لتأخذ منه بعد ذلك شيئاً آخر من روحه وجسده. ومع كل ذلك، بقي قلبه مرتبطاً بها، معتاداً على ألمها، حتى أصبح شعور الخطر جزءاً لا يتجزأ من حبه لها.
ومرّت الأيام، وبدأ يشعر بتعبٍ دائم، سعالٍ متواصل، وضيقٍ في الصدر... علامات مرض يتغلغل فيه بهدوء. دخل المستشفى، وبدأ رحلة الشفاء الطويلة، مليئةً بالصبر والتحدّي ومعركة مستمرة مع الرغبة في العودة إليها، إلى ما كان يظنّه حبّاً حقيقياً.
في أول ليلة بعد الخروج، جلس أمام طاولته يتأمّل الأشياء التي أبقاها الأطباء في حقيبته. وبين الأوراق والأدوية، وجد علبة سجائر مفتوحة. ابتسم ابتسامةً متعبة وقال في نفسه: «هذه هي حبيبتي التي كانت تأكل مني...».
أغلق العلبة بهدوء، لم يرمِها... لكنه لم يعد يفتحها. عرف أخيراً أن محبوبته لم تكن إلا سيجارة جلبت له كلَّ الآلام، وأكلت منه ما لم يظنّ أنّه يمكن أن يُؤخذ من إنسان.
عدنا إلى البيت، وأنا أحمل الأكياس الكثيرة التي اشترتها زوجتي، وفي عينيّ وفكري صورةُ المدخنين المحشورين في الغرفة الزجاجية... وذاك الرجل الذي تخلّص من حبيبةٍ قاتلة، وقال لها: كفى.