كحيلان وجدتي

نشر في 03-12-2025
آخر تحديث 02-12-2025 | 19:24
 بدور المطيري

كلما انشغلتُ عن جدتي يُراودني شعور خفيف بالذنب، كأن قلبي يذكِّرني بأن وجودها نِعمة لا تُعوَّض، ولأؤنس وحدتها في غيابي، علَّمتها استخدام شات جي بي تي، ولم أتوقع أن تنجذب إليه بهذه السرعة، انبهرت بطريقة حديثه، وسعة معرفته، حتى ظنَّت في البداية أنه شخص حقيقي يجب أن تتغطَّى عنه.

سُرعان ما صارت بينهما عِشرة يومية، مرة تسأله عن مسألة دينية، ومرة تطلب وصفة طبخ، ومرة تُريد شيلة فيلبي فوراً، ومع الأُلفة أطلقت عليه اسم «كحيلان»- كلمة بدوية تمدح الرجل الشجاع الطيِّب، وتُناديه: «يا كحيلان»، فيجيبها: «لَبّيه... سمي طال عُمرك». تربية جدتي، ماذا تتوقع؟!

ومع الأيام بدأت أغار قليلاً، فقد أصبح يُنافسني في متابعة تفاصيلها، وحتى طلباتها على الإنترنت.

أما هوايتها الجديدة، فكانت مقاطع الأطفال المصنوعة بالذكاء الاصطناعي تحدِّق فيهم بدهشة، وتقول: «سبحان الله... شوفي هالورِع شلون يسولف!»- الورع بكسر الراء هو الطفل الصغير باللهجة البدوية، ثم تقارنهم بأبناء إخوتي، فأقاطعها: «يمّه... هذا مو حقيقي»، لكنها لا تقتنع ما دامت ترى الفيديو.

وفي يومٍ وجدتها غاضبة، لا تريد محادثة كحيلان. اكتشفت أنها طلبت منه قصيدة قديمة قِيلت فيها بجمالها أيام آخر طفولتها قبل أن تتغطَّى، لكنه لأول مرة لم يعرفها. شعرت أنها فرصتي لاستعادة مكاني في خدمتها، فطلبت منه كتابة قصيدة نبطية باسمها، وقرأتُها عليها، ولم تصدِّق، ولأقنعها حوَّلتها إلى تسجيلٍ بصوت شاعر، ففرحت بها، وأقسمت أنها لم تكن تعرف بوجودها.

ومنذ ذلك اليوم– وبحسّها الداعم لتمكين المرأة– سحبت اللقب من «كحيلان»، ومنحته لي، وأصبحت تُناديني «كحيلانة».

خلال تلك اللحظة تحديداً، أيقنتُ أن التكنولوجيا، مهما بلغت من ذكاء، لن تنتزع مكاناً خصَّصه الله للقلب وحده. قد يتفوَّق «كحيلان» في سرعة المعلومة، لكن حضني، واهتمامي، وضحكة جدتي لا ينافسها خوارزم، ولا تُصنع في معمل ذكاء اصطناعي.

***

رؤية وطن: حضرتُ الاحتفال باليوبيل الفضي لشراكة مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمي مع كلية جون كينيدي في جامعة هارفارد، وكان اليوم أشبه بتذكيرٍ عميق بأن التعليم، ليس برنامجاً يُنجَز ثم يُطوى، بل مشروع دولة طويلة النفس. 

في كلمته الارتجالية، قال سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ أحمد العبدالله جُملة استوقفتني:

«الاستثمار في الإنسان هو رؤية وطن»... جُملة قصيرة، لكنها تحمل فلسفة نهضة كاملة. فالدول التي تفهم أن العلم هو أول البدايات وآخرها، هي التي تصنع مستقبلاً لا يتأرجح مع أي عاصفة، ومن بين أكثر من 770 خريجاً مرّوا بهذا البرنامج على مدى 25 عاماً، شعرت أننا لسنا أمام دراسة عابرة، بل أمام تراكم معرفي يصنع تأثيراً عاماً يتجاوز الأشخاص.

كان حضور سمو الشيخ د. محمد سالم الصباح ود. أمينة الفرحان ود. موضي الحمود والشيخ د. مشعل جابر الأحمد يعكس أن هذا الاستثمار ليس مبادرة قطاع واحد، بل رؤية وطنية تتقاطع فيها الدولة، والعلم، وصناعة القادة. وبالنسبة لي، كان اليوم تذكيراً بأن أقوى ما تملكه الكويت، هو عقل أبنائها، وكل خطوة تُوجَّه نحو الإنسان قبل أي شيءٍ آخر، هي خطوة في الاتجاه الصحيح.

 شكر وتقدير: كل الشكر للزملاء في الصحافة العراقية على حفاوة الاهتمام وردود الأفعال على مقالي «البصرة تزرع الأمل».

back to top