تعديلات «الأحوال الشخصية» بين سرعة الإنجاز ودقة الإصلاح

نشر في 02-12-2025
آخر تحديث 01-12-2025 | 17:21
 محمد الجارالله

في زمنٍ تتثاقل به التشريعات عادة تحت وطأة التحفظ والتريث، لا يمكن إنكار أن تحريك ملف قانون الأحوال الشخصية، وبوتيرة سريعة، يُحسب لوزارة العدل والوزير من حيث المبدأ، فالدولة التي لا تُحدّث قوانينها تفقد قدرتها على مواكبة مجتمعها وتحدياته. ويتبدى للعيان سؤال مهم – وهو محور هذا المقال – لا يتعلق بسرعة الإنجاز فقط، بل بوزن هذا الإنجاز على ميزان العدالة، وعمق اتصاله بالمصدر الشرعي الذي تأسس عليه المجتمع الكويتي وارتضاه دستوره مرجعية محورية. 

يظهر بوضوح أن القضية ليست خلافاً حول مادة أو بند، بل حول اتجاه التشريع ومدى قربه من روح الشريعة ومصالح المجتمع؟ وهل يحقق العدل للفئات المستضعفة؟ وهل يستحضر الخبرة الشرعية والإنسانية في كل موضع يمسّ الأسرة؟ هذه الأسئلة هي ما يجب أن نبدأ منه.

القانون ليس تنظيماً... بل عقد قيمي بين الدولة والمجتمع

القوانين التي تُنظم المرور أو الشركات أو المعاملات قد تُقرأ فنياً، وقد تُكتب بمرونة إدارية، أما القانون الذي يمسّ الأسرة فهو عقد أخلاقي قبل أن يكون لائحة تنظيمية.

إنه اتفاقٌ غير مكتوب بين الدولة ومجتمعها على حماية الأضعف قبل الأقوى، وصون الروابط قبل تفكيكها، وضبط الميزان ليقف مع الرحمة لا مع الجزاء وحده، ولهذا لا يمكن النظر إلى التشريع الأسري بوصفه مجرد بنية قانونية، فالنص في هذا المجال لا يراد منه تقنين السلوك بقدر ما يراد منه حفظ المودة ومنع الظلم ومراعاة الأعراف الراسخة.

إن أي تعديل لا يضع هذه الحقيقة في مقدمة معاييره، يفقد مصدر شرعيته الاجتماعية مهما بدا متقناً في لغته.

الوصية الواجبة... العدل الذي لا يجوز الاستغناء عنه

يقف موضوع «الوصية الواجبة» بوصفه محوراً حسّاساً لا يجوز تجاهله، فالصدام في هذا الموضوع ليس بين الشرع والقانون، بل بين قراءتين للشرع: إحداهما ترى النص من زاوية تاريخية، والأخرى تراه في مقصده الإنساني الرحب.

أنصار الإلغاء يستندون إلى اجتهادات فقهية معتبرة واستقرت عليها المذاهب ولم تأخذ بالوصية الواجبة.

ولكن معارضي الإلغاء يرون – وهو الرأي الأقرب لمقاصد الشريعة من وجهة نظري – أن ترك حفيد فقد والده في حياة الجد بلا نصيب لا يقبله وجدان، ولا يسنده مقصد شرعي، ولا ينسجم مع قواعد التكافل الأسري. إن إلغاء الوصية الواجبة ليس تعديلاً تقنياً، بل تغيير لطبيعة العدالة داخل الأسرة. والتشريع الذي يُفقد الضعيف نصيبه لا يمكن أن يتقدم بوصفه إصلاحاً، مهما كان مظهره القانوني.

المرجعية الشرعية... ليست خياراً بل ضرورة دستورية

المرجعية الشرعية ليست جهة يُستأنس برأيها عند الحاجة، بل هي البوصلة التي يُعاد إليها عند كل مادة تمسّ المصير الأسري. ولا يمكن أن يستقيم نصّ يتصل بالميراث والحضانة والنفقات والولاية دون إشراك أهل الشرع والفقه، ودون عرض التعديلات على المختصين الأصوليين الذين يفهمون موارد النصوص ومقاصدها. إن إغفال هذه الخطوة عن غير قصد – أو التعجل فيها – يجعل القانون عرضة للطعن قبل التطبيق، وللرفض قبل الإقرار، ولإثارة الشكوك حول مدى انسجامه مع الدستور الذي حسم بأن الشريعة مصدر رئيسي للتشريع.

الحضانة... حين يبتعد النصّ عن تفاصيل الإنسان

من القضايا التي تستحق الوقوف عندها ما يتعلق بنقل حضانة الفتاة عند سن الثانية عشرة.

لا أحد يختلف على أن الحضانة يجب أن توازن بين مصلحة الطفل وبين حق الوالدين، لكن الواقع الاجتماعي والنفسي يُظهر أن البنت في هذه السن تحتاج إلى أمها في المرافقة الوجدانية والنمو البيولوجي والتوجيه والاحتواء. والنصّ الذي يتجاهل هذا الواقع قد يؤدي إلى قرارات لا تحقق مصلحة الطفل، بل تزيد من التوتر الأسري، والقانون يجب ألا يُقرأ بصرامة ميكانيكية، بل بحسّ إنساني يرى الطفل قبل أن يرى المادة القانونية.

حقوق الزوجين... بين العرف والالتزام القضائي

لا يجب تحويل الواجبات الأسرية – التي نظمها العرف والمودة – إلى نصوص إلزامية قد تُستخدم كسلاح في الخلافات. القيم التي كانت تُدار بالحسّ والضمير والمروءة، تتحول بالنصوص القاسية إلى التزامات تعاقدية جامدة، وهذا التحول يُفقد الأسرة روحها ويجعل العلاقة الزوجية أقرب إلى التقاضي منها إلى التراحم. الأسرة تحتاج إلى قانون يحفظ كرامتها، لا قانون يزرع بين أفرادها رقابة مستمرة.

لا يجوز أن نحمّل القانون ما ليس فيه

تظهر الدراسات أن أسباب التفكك الأسري ليست نابعة من قانون الأحوال الشخصية، بل من ضغوط اقتصادية واجتماعية وثقافية تتجاوز قدرة النصّ على معالجتها. والإصلاح الحقيقي يبدأ من معالجة بيئة الأسرة، لا من إدخال تعديلات لا تمسّ جوهر المشكلة.

دعوة للعمل 

لقد وصلت هذه التعديلات إلى لحظة حساسة تستوجب وقفة وطنية جادة. فالقانون الذي يُراد له أن يحكم الأسرة يجب أن تشارك فيه الأسرة نفسها، وكل مؤسسات الدولة ذات الصلة.

ومن هنا فإن فتح نقاش مجتمعي واسع لم يعد خياراً بل ضرورة، نقاش يستمع إلى الآباء والأمهات، وإلى القضاة، إدارة الفتوى والتشريع، محكمة الأحوال الشخصية، والفقهاء، وإلى الباحثين الاجتماعيين والمهنيين، ووزارة الأوقاف، وكل من يهمه الأمر. حتى يشعر المجتمع أن التشريع يُبنى بروية لا بعجلة. وحتى يأتي القانون متسقاً مع الدستور ومحصّناً من مواطن الطعن.

إن الكويت – بتاريخها الشرعي والقانوني – قادرة على تقديم نموذج في صناعة التشريع يقوم على الحوار، والشفافية، ومشاركة المجتمع، والرجوع لأهل الاختصاص. والتعديلات التي تُصاغ بهذا النهج وحدها هي التي تنجح في التطبيق، وتحظى بالقبول، وتمنح الناس الاطمئنان الذي يستحقونه.

الخاتمة – القانون الذي لا يمرّ على ميزان الشريعة يظل ناقصاً

نحن أمام خطوة مقدرة وأمام مشروع يحتاج إلى تهذيب وتجويد، حتى يخرج بصورة تحقق العدالة، وتحمي الأسرة، وتنسجم مع دستور الدولة ووجدان الناس. فالقانون الذي ينطلق من الشريعة، ويُصاغ بالحكمة، ويُراجع بالعلم، ويُبنى بالتشارك، هو وحده الذي يدوم، وهو وحده الذي يستحق أن يُسمى إصلاحاً.

 

back to top