بالمختصر: «كرسي أمام المخفر» من سلسلة «دماء لا تعرف الكذب»

نشر في 30-11-2025
آخر تحديث 29-11-2025 | 18:40
 د. فهد إبراهيم الدوسري

جلستُ في مطعم صوت الهند، وهو مطعم هندي صغير، يطلُّ على مخفر الشرق. طلبتُ كوب كرك. ولم أطلب معه شيئاً، فقد امتلأ المكان بي، لا بما يُقدَّم على المائدة. ما إن استقرّ ظهري على الكرسي، حتى ارتفع الستار عن مسرحٍ قديم. لم يكن الكرسي خشباً فقط، بل كان أرشيفاً متنكراً، يحملني لا إلى الراحة، بل إلى قاعات انتظار الذاكرة. رأيتُ صوراً ليست في الإطار، بل في الهواء. سُمِعت أصواتٌ لا تصدر من المتحدثين، بل من الماضي الذي لم يمت، بل نام في زاوية وانتظرني كي أجلس. جريمة قتل في شارع خالد بن الوليد. وضحية في مركبة محترقة... انفجار موكب الشيخ جابر رحمة الله عليه. ومشتبه وقف أمامي ذات فجر مرتبك... يخبئ في سيارته زجاجة خمر. ملفات مرّ عليها نصف قرن، تنهض كما تنهض أرواح الشهداء حين يذكرهم العارفون بأسمائهم الحقيقية. هل هذا سحر المكان؟ أم أن ذاكرة المحقق لا تُشبه ذاكرة الناس؟ فالناس ينسون أين ركنوا سياراتهم... ونحن لا ننسى أين وُضعت أول قطرة دم، وفي أي زاوية استقرت طلقة الرحمة أو الخيانة. 

الشرح العلمي خلف التجربة 

هذا النص ليس خيالاً مجرّداً، بل يتكئ على حقائق فيسيولوجية ونفسية تعيشها ذاكرة المحقق الخبير: 1 - الذاكرة السياقية والمكانية: الأماكن تُعيد تنشيط الذكريات المخزّنة فيها... كل كرسي، كل رصيف، يحمل «طيفاً» من الملفات القديمة، لأن المخ يربط الذكرى بالمكان. 2 - استدعاء تلقائي من الذاكرة طويلة المدى: ما دمتَ قضيت سنوات طويلة في المعاينة، فإن كل موقع يصبح نقطة دخول (entry point) لذاكرة مهنية ضخمة. يُطلق عليها في علم الأعصاب «reactivation of engram circuits». 3- العواطف كمحفّز للوضوح: التجارب التي ارتبطت بعاطفة قوية (خوف، غضب، فخر) تُخزَّن بدقة أكبر، وتعود بألوانها كاملة. هذا ما يفسّر لماذا تتدفّق عليك تفاصيل دقيقة رغم مرور عشرات السنين. 4- الذاكرة المتخصصة للمحقق (Forensic Memory): المحقق لا يرى «صورة» فقط، بل يرى «مشهداً مركباً»: موقع + ضحية + أداة + توقيت + إحساس داخلي، وهذه القدرة تأتي من تدريب طويل وعقلٍ استثنائي في الربط والتحليل. 

 أفكر حالياً في الذهاب إلى مطعم أبراج الكويت لأرى الديرة من ارتفاع يزيد على 180 متراً. لعل الذكريات تزيد من هذا الارتفاع... دمتم بود.

back to top