كنوز البصيرة: وجوهٌ لامعة... وقلوبٌ خاوية (3)
يبدأ ميزان الأخلاق في الإسلام من كلمةٍ جامعةٍ قالها رسول الله ﷺ: إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
فالنبي ﷺ وضع القاعدة الكبرى: العبرة ليست بما يظهر للناس، بل بما يحمله القلب وما تعكسه الأعمال.
ثم جاء علي بن ابي طالب ليُفصّل هذا الميزان بعمقٍ أكبر... فيقول محذراً من ثلاثة أصناف: احذر ثلاثة أنواع من البشر: حسنُ الوجه قبيحُ القلب، جميلُ القول خبيثُ الفعل، سليمُ الجسد مريضُ النفس.
هو من أبلغ ما يُقال في معرفة طبائع البشر وتمييز الجوهر من المظهر... لأن الظاهر لا يكشف الحقيقة، والجمال لا يعني السلامة، والكلمة لا تعني الصدق.
هذا الحديث ليس وصفاً للناس، بل معيارٌ للبصير، فنّ البصيرة في التعامل مع الناس، فليس كل وجهٍ جميل قلبه منصف، ولا كل قولٍ لطيف فعله كريم.
ومن الخطأ أن نخلط بين الشكل والمعدن، وبين المظهر والجوهر.
لماذا اختار هذه الكلمات تحديداً؟ استخدم ثلاث صفات دقيقة... وكل كلمة تحمل معنى مختلفاً: قبيح: ما ترفضه الفطرة والحياء، أمرٌ ظاهر يمكن ملاحظته أو الإحساس به، خبيث: أعمق من القبح، فهو فساد خفي خلف قناع الطيبة أو الجمال، مريض: يدل على نقص في الجوهر، انحراف في النية، اضطراب في النفس قبل الجسد، ليس الحديث فقط عن سلوك سيئ... بل عن طبقات من الانحراف الداخلي: القبح في السلوك ظاهر... ترفضه الفطرة والذوق... والخبث مخبوءٌ خلف الأقنعة... فساد خفي تحركه النوايا... ومرض النفس اضطراب في الأعماق... واختلال في البوصلة الداخلية.
تفصيل الأنواع الثلاثة: حسن الوجه قبيح القلب: لم يقل خبيث القلب... بل قال قبيح القلب وهو من يفتنك بحضوره... لأن القبح شيء ترفضه الذائقة الأخلاقية والفطرة السليمة، فالجمال الخارجي قد يكون قناعاً يخفي ما في الداخل... فهو يدعوك لتقرأ ما في القلوب وليس فقط ما في الوجوه.
وثانيهما جميل القول خبيث الفعل ولم يقل قبيح الفعل... بل قال خبيث الفعل وهو من يُتقن الخطاب ويتزيّن بالكلمات الطيبة... لكن أفعاله تُناقض قوله... فليس العبرة بما يُقال، بل بالأفعال... فالقول لا يكلّف شيئاً والنية لا تُختبر إلا بالفعل. والخبيث هو الفساد المستتر... وهي دقيقة بمعنى الأفعال الماكرة... فالصدق الحقيقي يُقاس بالفعل... لا باللسان.
وأخيراً سليم الجسد مريض النفس: لم يقل ضعيف النفس... بل مريض النفس وهو من يبدو قوياً في بدنه، ناجحاً في دنياه، لكن في داخله اضطراب... حسد وكراهية... والمرض يدل على نقص داخلي... انحراف في الفهم... خلل في النية.
فالنفس المريضة تُنهك صاحبها أكثر من أي مرض في الجسد، لأنها لا تعرف سكوناً ولا طمأنينة والعافية الحقيقية هي سلامة النفس لا سلامة الجسد.
لم يكن الهدف من هذا القول أن يُخيفك من الناس بقدر ما أراد أن يُبصّرك بنفسك: أن تعتني بما في قلبك كما تحرص على الصورة التي تُظهرها للناس، وتزن نيتك قبل كلامك، وتعتني بسلامة نفسك كما تعتني بصحة جسدك.
فهذه الأنواع الثلاثة ليست دائماً وجوهاً نقابلها، أحياناً يتشكّل أثرها في النفس: قلبٌ نتركه بلا عناية حتى يمرض، وكلمة نقولها بلا إخلاص، وأفعال لا تشبه حقيقة نوايانا... فمن طهر قلبه صدق لسانه، ومن صدق لسانه صفت نيته، ومن صفت نيته بان أثر نقائه على حضوره.