بريق الأسماء... وحقيقة الأثر
يُعد حُب الشهرة ظاهرة إنسانية ضاربة الجذور، تتجاوز حدود الزمن والجغرافيا، وترتبط بالحاجة النفسية للاعتراف والقبول الاجتماعي. وقد تناولت العلوم السلوكية هذا الميل، بوصفه امتداداً لغريزة الإنسان لحُب البقاء.
فالمكانة كانت عبر التاريخ وسيلةً لضمان النفوذ والحماية وتوسيع فُرص البقاء، غير أن هذا الميل اكتسب أشكالاً جديدة في العصر الحديث، خصوصاً مع صعود الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي.
وفي العصور القديمة ارتبط حُب الشهرة بصناعة المجد الحقيقي، إذ كان العمل الخالد هو الطريق إلى الذِّكر، كما صنع رواد الحضارات الذين خلَّدوا أسماءهم بآثارٍ ما زالت تروي سيرتهم جيلاً بعد جيل.
وفي التاريخ الإنساني تتكرَّر صورة الباحث عن الخلود عبر الكلمة والتأثير، فقد كان الشعراء والحُكماء في الحضارات القديمة يُدركون أن الكلمة الباقية أعمق من الصدى العابر.
وفي تراثنا العربي تجسَّد المجد في الشجاعة والعمل، وهو ما يظهر في قول عنترة العبسي:
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ
منّي وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي
حيث يتجلَّى الافتخار بالفعل، لا بالصخب.
وفي العصر الحديث، نال المجد مَنْ صاغوا التاريخ بأفعالهم، لا بأقوالهم، فقد ارتقى القادة والمفكرون بالشهرة، من خلال التغيير الذي أحدثوه، وعاش العلماء خالدين عبر اكتشافات أضاءت للبشرية دروب المعرفة، لتكون شُهرتهم ثمرة أثر، لا ضوضاء.
ومع الثورة الرقمية ظهر التحوُّل الأكبر، إذ أصبحت الشهرة متاحة بضغطة زر، وصار «الظهور» هدفاً مستقلاً عن الإنجاز، ونشأت طبقة جديدة من مشاهير السوشيال ميديا، بعضهم قدَّم معرفة ومحتوى تثقيفياً يُسهم في الوعي، لكن الكثيرين بنوا حضورهم على الاستفزاز أو السطحية أو تضخيم تفاصيل الحياة اليومية، وهؤلاء يفرضون تحدياً اجتماعياً حقيقياً، إذ يُعيدون تشكيل الذوق العام، وينحتون قدوات قائمة على الشهرة السريعة، لا على القيمة.
وقد كشفت دراسات نفسية معاصرة علاقة هذا السعي المحموم للشهرة الرقمية بارتفاع معدَّلات القلق والنرجسية والشعور بالفراغ، كما قد تتأثر المجتمعات سلباً حين تُقاس القيمة بعدد المتابعين، لا بحجم التأثير الأخلاقي أو الفكري. وهنا تتشوَّه صورة القِيم، ويتراجع احترام العلم والعمل أمام منطق «الترند».
ومع ذلك، تشهد الأمة صحوة متزايدة في وعيها تجاه أثر هؤلاء المشاهير بين تقدير مَنْ يقدِّم قيمة فعلية، ورفض مَنْ يستغل الجمهور أو يُسهم في تشويه مبادئ المجتمع.
ويبقى السؤال الجوهري: هل نربِّي جيلاً ينجذب إلى بريقٍ مؤقت، أم إلى العمل الذي يخلِّد الأثر ويصنع الفرق؟ فالشهرة ليست مقياساً للقيمة، بل الأثر هو الحكم الحقيقي، والبصمة التي تبقى هي التي تحدد مَنْ يستحق الذكرى بعد أن تتلاشى أصداء الضجيج.