غارت أُمّكم...
يروي لي أحد الأصدقاء كيف بدأت قصة زواجه من مقر عمله... يقول: توظفت في إحدى الوزارات الحكومية، وكان عملنا أقرب ما يكون في العلاقات العامة، وكنت أتمتع بمهارة رائعة في التواصل مع الآخرين بالرغم من صغر سني، فأنا إنسان اجتماعي بطبعي، لا أطيق العمل الروتيني المتكرر، فتراني أتفاعل بذكاء مع من أمامي، وأراعي حال الآخر وطبيعته، إن كان مرحاً أو جاداً أو كتوماً أو غضوباً، فلا أذهب بعيداً عنه.
في هذه الفترة، تعرفت على أغلب من في الوزارة، وتعاملت مع كثير من زملاء العمل من الشباب والشابات والرجال والنساء. ومع الوقت استلطفت إحدى الفتيات المحترمات، وشعرت بأن شيئاً غريباً وقع في قلبي تجاهها، فكانت هي الوحيدة التي إذا مرت بجانبي شعرت بخطوات قدميها تدُقّ في قلبي! فتذكرت نصيحة ابن عمي إذ قال لي: «لا تفكر في أن تتزوج زميلتك في الدوام»... ولم يذكر السبب! فلم آخذ بنصيحته المبهمة، ولكني أخذته معي والعائلة ليخطبوها لي، وتمت الخطبة وبعدها تم عقد القران، وكان يوماً من أيامي السعيدة، فقد فرحت بزواجي منها، وشعرت أنني حظيت بتاج العروس، فقد تزوجت الأفضل والأجمل في نظري، فقد كانت أكثرهن حشمة وأناقة في لباسها وهيئتها، وأكثرهن نضجاً في كلامها وتعابيرها، وأكثرهن رزانة في مشيها وحركاتها والتفاتاتها، لذلك شعرت أنني أكثر زوج محظوظ في الدنيا، لأنني أخذت الأميرة، ولاشك في أنها ستكون الأم المثالية لأبنائي.
لا أريد أن أطيل عليك وأحكي لك ما حدث لنا في شهر العسل وما بعد شهر العسل من تغيرات لا تستحق الذكر، لأن الحياة الزوجية ستبدأ معك على حقيقتها من أول مولود، وإذا كبر، كبر معه كل شيء، من همّ وخوف وفرح.
لم أكن أتخيّل أن أرى يوماً شقيِّاً مع هذه الأميرة! ولم أتخيّل كيف ينقلب ذاك الهدوء إلى إزعاج عند الخلاف! وتلك الرّصانة إلى طيش!... وفي يوم من الأيام تشاجرنا كأي زوجين اثنين، ولكني وقتها كنت مهموماً بأمور أخرى، فلم أتحمل أن أبقى في المكان، فخرجت من البيت، مع وقت أذان العصر، فذهبت لأصلي في المسجد كغير عادتي. وبعد الصلاة حدثنا إمام المسجد بقصة من قصص النبي ﷺ مع زوجاته. عندما كان جالساً مع أصحابه في بيت السيدة عائشة، رضي الله عنها، حيث جاء غلام بقصعة فيها طعام أعدّته إحدى زوجاته، فغضبت السيدة عائشة من هذه الهدية، وضربت القصعة فسقطت وانفلقت نصفين، والنبي وأصحابه يشاهدون المنظر... فعرف النبي ﷺ أن الغيرة قد أشعلت قلب حبيبته، فابتسم عليه السلام وأعرض عن لومها وعتابها، وقال لمن حوله: «غارت أمكم غارت أمكم»، وأخذ يجمع الطعام بنفسه، ولم يطلب من أحد مساعدته.
هنا فقط أدركت أن المرأة إذا أحبت زوجها أسقطت حياء الكُلفة الذي يقيّد انفعالاتها العفوية تجاهه، ولهذا نراها أحياناً تتصرف على سجيتها كالأطفال... وهذه التّقلبات العاطفية في المرأة لا يدركها إلا الزوج الرشيد، الذي يعرف متى يكون زوجاً ومتى يكون أخاً ومتى يكون أباً حنوناً لطفلة.