«حالة الوعي»... حين يُصبح الكتاب سلاحاً
ما حدث بمعرض الكتاب هذا العام لم يكن فعالية ثقافية عادية، ولا موسماً للبيع، بل كان تمرُّداً ناعماً، انتفاضة فكرية تُشبه خروج الضوء من شرخٍ في جدارٍ مُعتِم. 3 دُور نشر كويتية، «تكوين»، و«قرطاس»، و«طروس»، قرَّرت أن الثقافة ليست رفاهية، بل معركة وجود ضد السطحية وضد الحشود التي تُصفِّق بلا وعي. هذه الدُّور لم تعرض كُتباً، عرضت مرآة، وصدمة، ومحاولة لإيقاظ العقل قبل أن يشيخ.
«تكوين»... مختبر الأسئلة الثقيلة، «تكوين» لا تبيع كتاباً، بل تبيع «قلقاً معرفياً». كل عنوان فيها يُربك، يصدم، يُزعج، كأنه يقول للقارئ: أنت لا تفكِّر بما يكفي، ففكِّر. بجناح «تكوين»، الكُتب ليست عناوين، بل محاولات لهدم أفكار مريحة، وبناء وعيٍ جديد. هنا، المعرفة فعل مقاومة، والسؤال أول خطوة نحو تحرُّر العقل من قيوده. «تكوين» ليست مكتبة... «تكوين» إعلان حرب على السطحية.
«قرطاس»... مواجهة بلا خوف، «قرطاس» لا تُهادن ولا تتزيَّن. دار تُشبه صرخة في وجه كل محاولة لإخفاء الحقيقة خلف خطابٍ مُهذَّب. كُتبها تقول للقارئ: إن لم تواجه واقعك، فسيبتلعك.
هنا، النشر ليس مهارة تجارية، إنما موقف سياسي وفكري. «قرطاس» تقدِّم كُتباً تُشبه المطرقة: تحطِّم الجدران التي تخاف مجتمعاتنا أن تطرقها. إنها دار تعرف أن الفكر إمَّا أن يكون صريحاً، أو لا يكون.
«طروس»... الجمال كفلسفة يقظة، «طروس» تستخدم الجمال كفخٍّ للوعي. الغلاف الجميل ليس تزييناً، بل بوابة تُجبرك على الاقتراب، ثم تصدمك الفكرة. هنا، الكتاب يتحوَّل إلى عملٍ فني، والقراءة تُصبح تجربة وجودية تكشف هشاشتنا الداخلية.
«طروس» تُعيد للكتاب مكانته المقدَّسة، وتُحارب الابتذال الذي حوَّل القراءة إلى «محتوى مستهلك».
الجمال عند «طروس» ليس فناً... الجمال منهج تفكير.
خريطة جديدة للعقل الكويتي، «تكوين» تُعلِّمك كيف تشك، و«قرطاس» تُعلِّمك كيف تواجه، و«طروس» تُعلِّمك كيف ترى. ومعاً يصنعون نواة وعيٍ جديد، وعي لا يقبل الاستسلام للكسل الفكري الذي يلتهم المنطقة.
كان المشهد في المعرض رسالة واضحة: الكويت رغم كل ضجيجها ما زالت قادرة على صناعة عقلٍ يقرأ، يتساءل، ويحتج.
تحية واجبة لصُنَّاع المشهد، فهذا الوعي لم يهبط من السَّماء. صنعه أشخاص قرَّروا أن الكتاب ليس سلعةً، بل مسؤولية: بثينة العيسى- «تكوين»: صوتٌ يصرُّ على أن السؤال أهم من الإجابة. علي العوضي- «قرطاس»: إثبات أن الجرأة ليست خياراً، بل واجب. محمد الثنيان- «طروس»: تحويل الجمال إلى وعي، والفكرة إلى تجربة فنية. هؤلاء الثلاثة لم يفتحوا مكتبات، فتحوا خنادق فكر في زمنٍ يخاف التفكير.
الخلاصة، ما حدث في معرض الكتاب لم يكن حدثاً ثقافياً، بل كان عودة العقل الكويتي إلى مقعد القيادة.
«تكوين» و«قرطاس» و«طروس» أثبتت أن الكتاب ما زال أقوى من الضجيج، وأقوى من الجهل، وأقرب إلى الحقيقة من كل منصة عابرة. هذه ليست دُور نشر... هذه مقاومة فكرية تستحق أن يُحتفى بها وتُحمى وتستمر.