شخصيتنا الرقمية!

نشر في 24-11-2025
آخر تحديث 23-11-2025 | 17:42
 د. بلال عقل الصنديد

لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للتفاعل، بل تحوّلت إلى مرآة رقمية تكشف ملامح الشخصية والحالة النفسية من خلال أنماط الاستخدام. ومع تطور الذكاء الاصطناعي، بات بالإمكان تحليل هذه الأنماط بدقة، حيث تعتمد الشركات على خوارزميات متقدمة وبيانات رقمية لاستنتاج السمات الخمس الكبرى للشخصية، وهي: الانفتاح، الوعي، الإيجابية، التوافق، العصابية. وكشفت دراسة أعدتها جامعة ستانفورد أن تحليل منشورات المستخدمين يمكن أن يكشف عن مستويات الانفتاح والتفكير الإبداعي لديهم، فالأشخاص الذين ينشرون صوراً فنية أو يكتبون عن تجارب جديدة غالباً ما يتمتعون بشخصيات منفتحة على التجارب الجديدة، بينما يميل أولئك الذين يركزون على الروتين إلى شخصيات أكثر تقليدية. ليس صعباً الاستنتاج أن الصورة الشخصية ونوعية المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تكشفان الكثير من ملامح الشخصية والمنظور الذاتي، فالشخص الذي يضع صورة واضحة له، مبتسماً أو في وضع رسمي، غالباً ما يسعى لإبراز حضوره الاجتماعي ويعكس ثقة أو تصالحاً مع ذاته، بينما يميل من يختار رمزاً أو صورة طبيعة إلى التعبير عن ذاته بطريقة غير مباشرة، مفضلاً الظهور من خلف ستار رمزي. كذلك، من ينشر مقالات أو إنجازات أكاديمية يميل إلى تأكيد مكانته المعرفية أو المهنية، في حين أن مشاركة التفاصيل اليومية تعكس توجّهاً اجتماعياً ورغبة في التفاعل الإنساني. أما من يخصص صفحاته لقضايا سياسية أو عامة، فهو يظهر انخراطاً في الشأن العام، مقابل من يفضّل الصمت الرقمي، سواء بدافع الحذر أو قناعة داخلية بالعزوف عن الجدل. من جانب آخر، تعكس اللغة المستخدمة على وسائل التواصل أبعاداً نفسية عميقة، فبعد تحليل ما نشره 75 ألف مستخدم عبر منصة فيسبوك، أظهرت دراسة نشرت في مجلة Psychological Science أن الكلمات الإيجابية مثل «سعيد» و«ممتن» كانت مرتبطة بأشخاص متفائلين بطبعهم، بينما الكلمات المرتبطة بالقلق مثل «خائف» و«قلق» كشفت عن شخصيات تعاني من مستويات عالية من التوتر. الإعجابات والتفاعلات على وسائل التواصل هي مؤشر آخر يعكس ميولنا وشخصياتنا، ففي دراسة أجرتها جامعة «كامبريدج» حلل فيها أكثر من 58 ألف حساب على فيسبوك لتحديد العلاقة بين الإعجابات وسمات الشخصية، وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يُبدون إعجابهم بمنشورات موسيقية أو ثقافية يميلون إلى شخصيات أكثر انفتاحاً، بينما يُظهر الأشخاص الذين يتفاعلون بشكل أساسي مع منشورات عائلية أو دينية سمات شخصية أكثر تحفظاً واستقراراً. لا يقتصر تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على كونها انعكاساً لشخصياتنا فقط، بل تسهم أيضاً في تشكيلها، فالتفاعل المتكرر مع ردود الأفعال الإيجابية يمكن أن يعزز الثقة بالنفس، بينما قد يؤدي التعرض للنقد المتكرر أو التنمر الإلكتروني إلى تطوير مشاعر القلق أو العزلة. وعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي تقدم صورة واضحة عن جوانب من شخصياتنا، لا يمكن أن نتجاهل الاختلاف بين الشخصية الحقيقية والهوية الرقمية التي نختار عرضها، اذ يحرص معظم المستخدمين على إظهار أفضل جوانب حياتهم، مما يؤدي إلى تكوين «هوية رقمية مثالية»، فالأشخاص الذين ينشرون صوراً متكررة لأنفسهم في أماكن سياحية أو مناسبات اجتماعية مميزة قد يكونون أقل رضاً عن حياتهم اليومية، ويستخدمون وسائل التواصل كوسيلة لتعزيز صورتهم أمام الآخرين. لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أداة قوية لفهم الذات والآخرين، لكنها تحمل في طياتها تحديات تتطلب وعياً ونضجاً في التعامل معها، فهي ليست فقط مرآة تعكس شخصياتنا، بل أيضاً عدسة تشكلها وتعيد صياغتها.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top