سياسة خارجية فرنسية وأخرى داخلية
يمكن ألا تحظى السياسة الداخلية لدولةٍ ما لدى مواطنيها بنفس درجة الرضا التي تحظى بها لديهم سياستها الخارجية. ويمكن أن يتم التوافق على السياسة الخارجية للدولة، في حين تكون سياستها الداخلية موضع انتقادات وخلافات بين أحزابها ومختلف مكوناتها المجتمعية.
وتعكس الأوضاع في فرنسا بالأشهر الأخيرة من هذا العام الميلادي الفوارق بين تقبُّل فئات كثيرة في المجتمع الفرنسي للمواقف الخارجية للمسؤولين الحكوميين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية، في حين يظهر عدم الرضا وحتى السخط والتذمر مما يصدر عن هؤلاء المسؤولين فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية الداخلية.
تميَّزت السياسة الخارجية الفرنسية، ومنذ أيام الجنرال شارل ديغول، باستقلاليتها، وعدم ارتباطها بأحلاف ومعسكرات، وسعى ديغول لجعل فرنسا دولة عظمى، من خلال امتلاكها للسلاح النووي كسلاح ردع ودفاع، ولعب دورها في مجلس الأمن كدولة دائمة العضوية لها حق النقض، وانتهاج سياسة متوازنة تجاه المعسكرين الغربي والشرقي، آنذاك، والكل يعرف مواقفه المتميزة بخصوص الاعتداءات الإسرائيلية على الدول العربية، ونذكر كيف أنه أمر بحظر بيع السلاح لدولة الاحتلال عام 1967 بعد العدوان الإسرائيلي على ثلاثة بلدان عربية، واحتلال أجزاء من أراضيها. وتابع الرؤساء الفرنسيون هذه السياسة الديغولية التاريخية تجاه الدول العربية، مروراً بجورج بومبيدو، وفاليري جيسكار ديستان، وفرانسوا ميتران، وجاك شيراك. وكانت هذه السياسة حاضرة، ولو بدرجات متفاوتة، مع الرؤساء الفرنسيين من الجيل الجديد، ومنهم حالياً الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي اعترف من على منبر الأمم المتحدة في شهر سبتمبر الفائت بدولة فلسطين، واستقبل الأسبوع الماضي بكل حفاوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس في قصر الإليزيه.
ويتضح الزخم الدولي للرئاسة الفرنسية، من خلال استقبال الرؤساء والقادة، والمشاركة في الاجتماعات الدورية لقمم الاتحاد الأوروبي، وحضور المؤتمرات الدولية، والمواقف الداعمة لجمهورية أوكرانيا تجاه العدوان من قِبل روسيا الاتحادية، وسعي الرئيس الفرنسي لإيجاد حلٍ لهذه الأزمة الأوروبية التي تقض مضاجع قادة الدول الأوروبية، والمبادرات الفرنسية العديدة بتقديم أنواع من المُعدات الحربية الثقيلة والخفيفة للجيش الأوكراني.
لا يُنكر أحد هذه المواقف المتميزة للسياسة الخارجية الفرنسية، والتي تلقى تجاوباً وقبولاً في الشارع الفرنسي من قِبل معظم أفراده ومكوناته.
ويكمن الإشكال حالياً في السياسة الداخلية الفرنسية، التي لا تتوافق كثيراً مع السياسة الخارجية، وتبدو في أحيان كثيرة منفصلة عنها. فالشارع الفرنسي منشغل بالدرجة الأولى بحياته اليومية، وبهمومه ولقمة عيشة وضمانه الصحي وبمستقبل أولاده، ولا يعير اهتماماً كثيراً للأخبار الخارجية والدولية، إلا إذا انعكست بشكلٍ مباشر على أوضاعه الاقتصادية والمالية والاجتماعية، كارتفاع أسعار المحروقات، أو فواتير الكهرباء، أو زيادة التضخم، أو تحمُّل الأفراد لنفقات وأعباء جديدة.
توجد حالياً أزمة داخلية في فرنسا، ولا تزال آخر حكومة تم تشكيلها تتخبَّط، بغرض الوصول إلى اعتماد ميزانية الدولة الفرنسية لعام 2026، وآخر المستجدات موافقة الجمعية الوطنية الفرنسية على تعليق نظام التقاعد الذي سبق أن اعتمدته هذه الجمعية عام 2023. وتبقى الفرصة متاحة للحكومة الحالية لاعتماد الميزانية الجديدة قبل نهاية هذا العام، مما سيسمح بفترة استقرار نسبية للأوضاع الداخلية، بانتظار الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2027.