كنوز البصيرة «2» حين يتقن الحزن دور الاعتراض
مَن أصبحَ على الدنيا حزيناً أصبحَ على الله ساخطاً (جعفر بن محمد)... معنى دقيق في ميزان التوحيد والرضا، فمن استيقظ مهموماً من أجل فقر، أو فقدان، أو تأخير رزق فقد استاء على قضاء الله سبحانه، فهو في الحقيقة يحزن على ما لم يُقدَّر له وكأن قلبه يعترض في باطنه على تدبير الله وحكمته.
فالحزن على الدنيا اعتراض خفيّ، أما الحزن الروحي فهو يقظة واستشعار القلب لحاجته الدائمة إلى الله سبحانه. فهو لا ينهى عن الحزن كحالة إنسانية... بل يوجّهنا إلى مصدر الحزن ومرجعه، فإن كان حزنك لأن نصيبك من الدنيا قلّ... أو لأن غيرك نال ما لم تنله فأنت دون أن تشعر جعلت الدنيا مقياساً لقيمك.
وفي الحاضر... أصبح للنجاح صورة موحدة تُفرض على الناس... مال... شهرة... إنجاز بلا توقف... وغياب للسكينة في أبسط لحظات الحياة... تتردد حولنا أصواتٌ تكرّر: حقق المزيد، لا تتوقف... فقد سبقك الآخرون، حتى أصبح الإنسان يختزل قيمته بما يملك، لا بما يعكس جوهره، فهناك من يقدّم نفسه كخبير في «التطوير الذاتي» لا يدفع الناس نحو التنمية، بل تجاه القلق، يبيع الوهم تحت شعار التحفيز، فيشعر الإنسان أن حياته محرومة من المعنى، وأنه دائماً خلف الآخرين..
. النجاح لا تصنعه الضغوط، بل يكشفه الوضوح.
ليس كل من يدعوك للنجاح يريد لك الخير،
فبعضهم لا يرى فيك روحاً تبحث عن معنى، بل صفقة مكتملة، لذلك انتبه لأي خطاب يجعل قلبك منشغلاً بالدنيا أكثر من ارتباطك بالله سبحانه...
فالسعادة لا تُباع في دورة تدريبية،
ولا تُقاس بعدد المتابعين، ولا تحتاج إلى شهادة من أحد، فالقيمة لا تكتسب، بل تُكتشف.
لا تسمح لأحد بأن يسرق منك سكون قلبك باسم النجاح، فالوصول الحقيقي لا يكون على حساب الطمأنينة، وليس كل ما يصيبنا قدراً خالصاً لا يد لنا فيه،
أحياناً نحن من فتح الباب لنتائجه، بإهمالٍ، أو استعجال، أو غفلة... حين غفلت قلوبنا، وأهملنا الفرص، وسرنا في طرق لم ننتبه لعواقبها،
لكن إدراك المسؤولية لا يعني معاقبة النفس أو العيش في دائرة اللوم المستمر.
نرى أخطاءنا بصدق، لا بقسوة،
ونتعلم منها دون أن نحولها إلى عقوبة، فيكفي أن نعود، فالله لا يصدُّ قلباً اتجه نحوه، فنقول: «يا ربّ، دلني الطريق، ولا تحجب بصيرتي، وامنحني سُبُلاً تقودني برويّة». نعمل بما نستطيع، ونقرن القول بالفعل، ثم نترك النتيجة لله سبحانه، هناك تبدأ مرحلة الرضا، اجتهاد وتسليم كامل.
والرضا ليس خضوعاً، بل ثقة بحكمة الله، وبأن التدبير ليس بأيدينا، فالرضا بتدبير الله يهب للقلب الطمأنينة، ولا يخشى ما يفوته من الدنيا،
فيرى أن ما حُجب عنه كان حفظاً ورحمة، وما مُنح له كان قدراً موزوناً بعلمه، فلا يبقى للحزن على الدنيا موضعٌ في القلب، لأن القلب إذا عرف الله حقّاً لا يرى في الدنيا ما يستحق الأسى، بل يزداد شوقاً لما عند الله، وما يبدو حرماناً قد يكون عين العطاء.
ومن هنا... يصبح الرضا أرقى درجات الإيمان، لأن الساكن في هذا المقام لا يرى في الفقدان إلا لطفاً خفياً، ولا في الحرمان إلا اختباراً للتسليم، فالرضا لا يغيّر القدر، بل يبدّل حال القلب أمام القدر.