الإرتاج
الإرتاج هي لحظة ينغلق فيها باب الكلام فجأة على المتكلّم أو الخطيب، وكأنّ الذاكرة تعطّلت وتركَت صاحبها في فضاءٍ صامت، لا يرى فيه إلا عيون الحاضرين المسمَّرة عليه. ويصفه أهل البيان بانقطاع «مذاهب القول» إما لعاجلةٍ من رهبة أو دهشة أو اضطراب نفسي عارض، لا يلبث أن يتبدّد إن أحسن المتكلّم إدارة لحظته، أو وجد لنفسه مهرباً كريماً.
وقد ترك لنا التاريخ العربي أمثلةً بديعة لخطباء داهمهم الإرتاج، فاستأنفوا الخطاب بحكمةٍ لا تقل جمالاً عن الكلام الذي كانوا يُعِدّونه في أذهانهم للتحدث به.
فمن ذلك أنّ يزيد بن أبي سفيان لما وقف يخطب لأول مرة بالناس، ارتجَّ عليه مراراً، فلما ضاق عليه الكلام قال بذكاءٍ يحفظ المقام: « إنكم إلى إمامٍ عادلٍ أحوج منكم إلى إمامٍ قائل»، فأنهى العثرة بحكمة.
وكذلك رُوي عن بعض خطباء بني أمية، أن أحدهم حبسه الارتباك حين رأى مقامه بين الكبراء، فوقف يتأمل وجوههم، ثم قال: «أيها الناس، لو كان في الصمت عيبٌ لما جعله الله مفتاحاً للكلام»، ثم استأنف حديثه كأنما استردّ روحه.
ويروى في هذا الصَّدد أن ثابت قُطْنَة صَعِد منبرَ سجسْتان فقال: الحمد لله. ثم أُرتِجَ عليه، فنزل وهو يقول:
فإن لا أكنْ فيكم خطيباً فإنني... بسيفيَ في يومِ الوَغَى لَخَطيبُ
فقيل له: لو قلتَها فوق المنبر لكنتَ أخطبَ الناس.
ويبدو أنهم في السابق كانوا يعيبون على من يحضّر للخطبة كما هو شائع الآن. فقد كان فيما سلف يتَّهمون الخطيب المبدِع بأنه يهيئُ الخطب ويحبِّرها تحبيراً، حتي أنه قيل لبعض الخلفاء: إنَّ شبيب بن شيبة يستعملُ الكلام ويستعيرُه، فلو أمرتَ أن يصعدَ المنبر لرجوتُ أن يَفتضح، فأمرَ رسولاً فأخذ بيدِه إلى المسجد فلم يُفَارِقْهُ حتى صَعَد المنبرَ فارتجلَ كلاماً يُشبِه طِرَازَ خطبه، فعرفوا أنه متمكن.
وأما الآن فلا حرج أن يقرأ الخطيب أو المتحدث من ورقة أو يحضّر لها ويكتب بعض النقاط التي تعينه على الاسترسال، لأن الإرتاج محرج للغاية وقد يُسجّل على صاحبه، ولهذا السبب نرى بعض الوزراء أو كبار المسؤولين وفي يده قصاصة ورق مكتوب عليها نص القسم الوزاري الذي لا يتجاوز عشر كلمات، خوفاً من أن يداهمهم الإرتاج أو النسيان.
قال الكميت بن زيد: «إنما يجترئُ على الخطابة الغَمْرُ الجاهل، أو المطبوع الحاذق، الواثقُ بغَزَارته واقتداره». والخطيب المتصنِّع متى أُرتِجَ عليه لم يَسَعْهُ إلا أن يَدَع الكلام، وينزلَ عن مقام الخطابة صاغراً، أما الخطيبُ المطبوع فيُحسِن الخروج من الحرج.
وروى المؤرخون طرائفَ في الإرتاج، ولكني سأروي لكم موقفاً حقيقياً حدث من نحو عشرين عاماً، لثلاثة شبّان كويتيين في مطلع مسيرتهم الدعوية، كانوا متحمسين بشدّة للدعوة، ويتدارسون فيما بينهم كيف يُحيون القلوب ويشحذون الهمم، ورأوا وقتها أن الموعظة القصيرة عقب صلاة الجماعة هي الانطلاقة المثالية.
فاتفقوا أن يذهبوا لأحد المساجد الكبيرة ليُحدّثوا الناس بموعظة بعد الصلاة، فلما انتهت الصلاة قام أجرؤهم، فشدّ ثوبه، وتقدّم بسرعة إلى الأمام، ثم التفت إلى المصلين، وقال بنبرةٍ مسموعة: «السلام عليكم»... ثم ما أن شاهد الصفوف الممتدة حتى باب المسجد، والعيون تترقب قوله، انحصر لسانه عن الكلام، وصار لا يسمع إلا ضربات قلبه تنبض في أذنيه، وشعر بدوار وعدم توازن، فلم تحمله قدماه، فوقع كالمغشي عليه، ثم رفع يده، وقال: «ترى مو طرار».