وجهة نظر: مستقبل العمليات المصرفية بين البنوك الرقمية ورقمنة البنوك التقليدية
التعريفات والماهية القانونية
تُعرّف البنوك الرقمية، كما حددها البنك المركزي المصري، بأنها «البنوك التي تقدم الخدمات المصرفية عبر القنوات أو المنصات الرقمية باستخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة». ويكتمل هذا التعريف الرسمي بالتعريف التشغيلي الذي يصفها بأنها «بنك بدون فروع يقدم جميع الخدمات المصرفية الفورية عبر قنوات رقمية». السمة الجوهرية هنا هي نموذج «بدون فروع»، الذي يهدف إلى «تجنّب تكاليف وتعقيدات الخدمات المصرفية التقليدية».
من الضروري قانونياً التمييز بين هذا المفهوم والمفاهيم المشابهة. يكمن الفارق الرئيسي في توفر رخصة مصرفية. البنوك الجديدة هي في الأساس «شركات تكنولوجيا» تعمل عبر الإنترنت بدون رخصة مصرفية مستقلة، وتعتمد بدلاً من ذلك على «بنوك شريكة» لتقديم الخدمات الخاضعة للتنظيم، ويكون مؤشر الأداء الرئيسي لديها هو «عدد العملاء». أما «البنوك المنافسة» فهي كيانات تمتلك رخصة مصرفية كاملة وتسعى «للمنافسة مباشرة» مع البنوك التقليدية، ويكون مؤشر الأداء الرئيسي لديها هو «الربحية من خلال إدارة المخاطر». هذا التمييز ليس شكلياً، فالبنك الجديد هو واجهة تقنية، بينما البنك المنافس هو بنك متكامل يتحمل العبء التنظيمي الكامل.
التمييز بين البنك الرقمي ورقمنة البنك التقليدي
يكمن الفارق الجوهري بين البنك الرقمي الأصيل وبين «رقمنة البنك التقليدي» في البنية التحتية الأساسية وليس فقط في الواجهة. تُبنى البنوك الرقمية الأصيلة على «منصة تكنولوجية حديثة سحابية أصلية»، وهي مصممة بالكامل عبر الإنترنت، بدون فروع أو أنظمة موروثة. في المقابل، غالباً ما تتضمن رقمنة البنوك التقليدية إضافة طبقات رقمية فوق «أنظمة موروثة» وقديمة. هذه الأنظمة القديمة تجعل البنوك التقليدية أبطأ في تبني التكنولوجيا الجديدة.
ينتج عن هذا الاختلاف في البنية التحتية فجوة هائلة في التكاليف. تتمتع البنوك الرقمية الأصيلة ب «قاعدة تكلفة أقل بنسبة 60% إلى 70% من البنك التقليدي». والسبب المباشر هو «التخلص من النفقات العامة المرتبطة بالفروع المادية»، وهو ما ينعكس على «تفادي تكاليف الفروع والعمالة». كنتيجة، تحقق البنوك الرقمية «نسبة عملاء إلى موظفين أعلى بمرتين إلى 3 مرات» مقارنة بالبنوك التقليدية.
تتجلى هذه الفجوة الكبيرة بوضوح في تجربة العميل، فبينما تركز البنوك الرقمية على «المنصات المبسطة»، تواجه البنوك التقليدية شكاوى من الدعم البطيء وتجربة المستخدم السيئة. ويمكن قياس هذه الفجوة، حيث كشفت عينة أوروبية أن فتح حساب جارٍ يتطلب 36 نقرة في المتوسط في بنك رقمي، مقابل 85 نقرة في المتوسط في بنك تقليدي. إن عملية ال 85 نقرة ليست مجرد فشل في التصميم، بل هي انعكاس لفشل البنية التحتية القديمة التي لم تُصمم «من البداية إلى النهاية» بشكل متكامل كما هو الحال في البنوك الرقمية الأصيلة.
الإشكاليات القانونية والسند القانوني
إن «السند القانوني» لوجود البنوك الرقمية هو «الرخصة» الممنوحة لها من السلطات التنظيمية، وهي التي تحدد طبيعة الكيان ومستوى المخاطر المسموح به. المسار الأول هو «رخصة النقود الإلكترونية»، وهو المسار النموذجي للبنوك الجديدة، ويتطلب هذا المسار رأسمالاً منخفضاً نسبياً، لكنه يفرض قيوداً قانونية صارمة، حيث لا يسمح بتقديم الإقراض كمنتج مستقل أو استخدام كلمة «بنك» تجارياً. والأهم، أنه يجب «عزل» أموال العملاء ولا يمكن للبنك استخدامها في استثماراته، وهي لا تخضع لأنظمة حماية الودائع التقليدية.
المسار الثاني هو «الرخصة المصرفية الكاملة»، وهو مسار البنوك المنافسة. يتطلب هذا المسار رأسمالاً أعلى بكثير، ويمنح سلطة قانونية لتقديم جميع الخدمات المصرفية، بما في ذلك إدارة الودائع وتقديم الإقراض واستخدام أموال العملاء في التمويل. في المقابل، تفرض هذه الرخصة التزامات مشددة، أهمها الخضوع لرقابة البنك المركزي المباشرة والالتزام الإلزامي بالانضمام إلى أنظمة حماية الودائع.
وقد طورت البنوك المركزية في المنطقة أطرها القانونية الخاصة، ففي المملكة العربية السعودية يتطلب البنك المركزي السعودي أن يكون البنك «شركة مساهمة محلية»، وأن يتوافر لدى المؤسسين «خبرة مزدوجة» (مالية وتقنية)، مع تقديم «خطة خروج». وفي مصر، حدد البنك المركزي المصري حداً أدنى لرأس المال يبلغ «ملياري جنيه مصري»، مع «حظر إنشاء فروع» وفرض قيد أولي ب «حظر منح التسهيلات الائتمانية للشركات الكبرى». أما في الكويت فيركز بنك الكويت المركزي على الاستدامة، مطالباً ب «استراتيجية عمل... (لخمس سنوات)» و«خطة خروج»، ضمن عملية ترخيص منظمة من أربع مراحل.
المخاطر وآليات الرقابة القانونية
يواجه العملاء (المتعاملون) إشكاليتين رئيسيتين.
الأولى هي «مسألة الأمان» والخوف من «هجمات القرصنة الإلكترونية» و«التهديدات السيبرانية الخطيرة». إنها «معركة مستمرة»، ورغم استخدام تقنيات «التشفير» و«الأمان السحابي»، فإن نموذج «رقمي فقط» يخلق «نقطة فشل واحدة» قد تعطل البنك بأكمله. الإشكالية الثانية هي «انعدام العامل البشري»، مما يخلق فجوة ثقة. وهنا تكمن المفارقة، فنموذج عمل البنك الرقمي مصمم لتقليل التفاعل البشري توفيراً للتكاليف، لكن بناء «الثقة» لدى العميل يتطلب غالباً هذا التفاعل المفقود.
ويواجه أصحاب البنوك الرقمية بدورهم مخاطر تشغيلية وقانونية جسيمة. أولاً، المنافسة الشرسة من البنوك التقليدية التي «قطعت شوطاً كبيراً في الرقمنة»، مما جعل الميزة التقنية للبنوك الجديدة «أقل تفرداً».
ثانياً، إشكالية الربحية، وتحديداً «تكلفة الإقراض». فالبنوك التقليدية تمتلك «أرصدة ضخمة من الودائع» (كالحسابات الجارية) بكلفة منخفضة، بينما تضطر البنوك الرقمية إلى «شراء» أموالها عبر تقديم «أسعار فائدة أعلى على الودائع». هذا يرفع «تكلفة التمويل» لديها ويجعل «من الصعب عليها تقديم قروض بأسعار أقل». وأخيراً «تكلفة الامتثال القانوني» المرتفعة، خاصة في مجالات مكافحة غسل الأموال والأمن السيبراني، والتي تلتهم جزءاً كبيراً من وفورات التكلفة الناتجة عن غياب الفروع.
استجابةً لهذه المخاطر، تركز السلطات الرقابية (البنوك المركزية) على مجالات إشرافية متخصصة. المجال الأول والأهم هو «مكافحة غسل الأموال». ويكمن التحدي هنا في «التأهيل الرقمي للعملاء»، أو ما يعرف ب«اعرف عميلك الإلكترونية»، والذي قد يسهل استخدام «هوية... احتيالية». المجال الثاني هو «الأمن السيبراني»، حيث تفرض الجهات الرقابية «إطاراً فعالاً لإدارة مخاطر التكنولوجيا»، لضمان «المرونة السيبرانية» و«مواكبة نظم المعلومات». المجال الثالث هو «مخاطر التعهيد»، نظراً لاعتماد البنوك الرقمية «السحابية الأصلية» على مقدمي خدمات وشركات تعهيد، مما يستدعي الالتزام ب«تعليمات إسناد مهام لطرف ثالث».
الخاتمة
يتضح مما سبق أن «البنك الرقمي» ليس مجرد بنك تقليدي يستخدم تطبيقاً، بل هو كيان قانوني وتشغيلي مختلف جذرياً، تُحدَّد هويته ومخاطره بنوع «الرخصة» التي يحملها. الفارق الجوهري بينه وبين الرقمنة التقليدية يكمن في «البنية التحتية» و«هيكل التكاليف»، وبينما يواجه العميل مخاطر «الأمن السيبراني» وغياب «العامل البشري»، يواجه المالك إشكالية «تكلفة الإقراض» و«تكلفة الامتثال».
وقد استجابت السلطات الرقابية في المنطقة بأطر قانونية ناضجة تركز بشكل متزايد ليس فقط على الملاءة المالية، بل على الرقابة التقنية الدقيقة، وتحديداً في مجالات «اعرف عميلك الإلكترونية» (e-KYC)، و«المرونة السيبرانية»، والمخاطر، فضلاً عن أن الاقتصاد العالمي يتحول إلى تقليل نقل الأموال يدويا والتعامل ضمن النقود الكاش اما لضمان التسليم والاستلام واما لضمان حماية المعاملات من غسل الأموال وتمويل الإرهاب الذي تحاربه كل الدول التي تسعى لاقتصاديات متينة، وكل تلك التطبيقات تتطلب تشريعاً خاصاً ينظم تلك الضوابط لرفع مستوى الثقة التي قد تخلق لدى المتعاملين، وتحقيق الضمانات من البنك المركزي للعملاء جراء المخاطر المذكورة في هذه الدراسة.
* أركان للمحاماة والاستشارات القانونية