تقارير الأربعاء... من الورق إلى الأثر الحقيقي: رؤية إصلاحية لإدارة الدولة ووزارة الصحة

نشر في 19-11-2025
آخر تحديث 18-11-2025 | 18:51
 محمد الجارالله

 

يمثل قرار الحكومة بإلزام الوزراء بتقديم تقارير دورية أسبوعية لمجلس الوزراء خطوة مهمة نحو ترسيخ الشفافية والحوكمة الحديثة، وهو توجه يُحسب لسمو رئيس مجلس الوزراء الذي عرفته خلال ست سنوات من الزمالة، ساعياً بجدية إلى نقل الإدارة الحكومية من «منطقة الظلال» إلى «منطقة القياس»، فالشفافية ليست شعارات تُطلق في الهواء، بل ممارسة تعتمد على الأرقام والجداول الزمنية ومؤشرات الأداء القابلة للقياس. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الخطوة مرتبط بالطريقة التي ستدار بها وبقدرتها على تحقيق أثر حقيقي لا مجرد نشاط ورقي أو «احتفالية إنجازات».

دروس العالم: تقارير تصنع التغيير لا تلاحق الإعلام

تُجمع التجارب الدولية الناجحة على أن التقارير الحكومية ليست سباقاً إعلامياً بل أداة لإدارة الدولة، فالدول التي حققت تحولاً في كفاءتها الحكومية اعتمدت تقارير شهرية ونصف شهرية تُدار في غرف عمليات حقيقية وليست إدارات شكلية.

في السعودية، تُدار منظومة المتابعة عبر جهتين محوريتين:

الأولى هي مكتب تحقيق الرؤية (Vision Realization Office – VRO) الذي يشرف على متابعة تنفيذ مستهدفات رؤية 2030 لكل وزارة، ويرفع تقارير أداء مفصلة ترتبط بخطط التحول الاستراتيجي.

أما الجهة الثانية فهي «مركز أداء» (National Center for Performance Measurement – أداء)، الذي يعد الذراع الوطنية لقياس الأداء، ويضع مؤشرات دقيقة ويُصدر تقارير شهرية مع خطط تصحيحية، ويربط النتائج بلوحات قيادة ترفع مباشرة للقيادة.

وفي الإمارات، تُدار عملية المتابعة عبر مكتب رئاسة مجلس الوزراء، تحت إشراف وزارة شؤون مجلس الوزراء والمستقبل، باستخدام نظام الملفات التنفيذية، وهي لوحات قيادة لحظية تُعرض أمام القيادة وتُناقش في اجتماعات دورية يرأسها رئيس مجلس الوزراء. بل إن الإمارات تنشر جزءاً من هذه المؤشرات للرأي العام، ما يعزز الشفافية ويرفع مستوى الالتزام داخل الوزارات.

هذه التجارب أنتجت تحولاً حقيقياً في الخدمات الصحية والتعليمية والاقتصادية والرقمية، لأنها لا تُقيس عدد الاجتماعات والافتتاحات، بل الأثر الحقيقي للقرارات على جودة حياة المواطن.

تجربة شخصية تؤكد أهمية المنهج البصري والقياس

قبل 25 عاماً، كنتُ شاهداً على تجربة مهمة في مجلس الوزراء، فقد كان الوزراء يقدمون تقارير سنوية تُقرأ قراءة سردية، ثم تنتهي الجلسة دون نقاش عميق أو مساءلة حقيقية، واقترحتُ على المغفور له الشيخ صباح الأحمد، وبحضور الشيخ سعد العبدالله، رحمهما الله، أن تُعرض تقارير كل وزارة على شاشة كبيرة عبر PowerPoint، بحضور الوكيل وبعض الوكلاء المساعدين مع جداول زمنية واضحة وخطوات إنجاز العام القادم، وقد وافق سموه فوراً.

خلال تلك السنة، أصبحت جلسات المتابعة حيوية، ثرية، وذات نقاش حقيقي، وشعر الجميع بأن العمل الحكومي بدأ يخرج من الرتابة إلى التخطيط، لكن في العام التالي، ومع غياب الالتزام والجدية من بعض الجهات، تراجعت الفكرة وعاد النظام السردي. الدرس الأهم هنا: لا إصلاح بلا جدول زمني... ولا تطوير بلا قياس... ولا قياس بلا متابعة مهنية مستقلة.

من لجان العلاقات العامة... إلى لجان المتابعة الحقيقية

تحويل «تقارير الأربعاء» إلى أداة إصلاح يتطلب لجاناً مركزية في مكتب رئيس الوزراء، تتمتع بخبرة إدارية راسخة، وقدرة على تحليل الاتجاهات، ومعرفة بمنهجيات المتابعة الحديثة (PMO – KPI – Balanced Scorecards)، مع استقلالية تامة بعيداً عن المجاملات. مهمة هذه اللجان هي التقويم وكشف مكامن الخلل واقتراح الحلول، كما هو الحال في الإمارات والسعودية.

لماذا التقارير الشهرية أكثر صدقية من الأسبوعية؟

التقرير الأسبوعي، مهما كانت النوايا حسنة، لا يكشف تقدماً حقيقياً، وقد يدفع المسؤول —ولو من دون رغبة— إلى إنتاج «إنجازات ورقية»، أما التقارير الشهرية فهي تسمح بقياس التقدم، ورصد التأخير، وتحليل أسبابه، وتقديم توصيات قابلة للتطبيق، بعيداً عن الضجيج الإعلامي والمجاملة الإدارية.

 «الصحة»... أين تذهب الإنجازات عندما تغيب الحوكمة؟

تُعد وزارة الصحة أكثر الوزارات التي تكشف الحقيقة بلا مجاملات، لأن الوقائع فيها لا يمكن تزويرها، فوقت انتظار الطوارئ الطويل، ونسب العدوى المكتسبة المرتفعة، ونتائج العمليات وما يرتبط بها من الأخطاء الطبية، وعدم توافر الدواء في فترات عديدة، ومؤشرات سلامة المريض، ورضاه عن مستوى الخدمة، وضياع المريض داخل المستشفى بين المكاتب نتيجة ضعف الإرشاد الداخلي وغياب اللوحات التوجيهية، وتشتت المسارات السريرية، وضعف التكامل بين الإدارات، كل هذه تعكس بوضوح مستوى الخدمة الحقيقي بلا رتوش، وتُظهر هذه الوقائع الفجوة الواسعة بين «الإنجاز الورقي» في البيانات الرسمية و«الواقع الميداني» الذي يعيشه الناس يومياً.

ومثال صريح على هذه الفجوة هو مستشفى الولادة الجديد، الذي افتُتح قبل تسعة أشهر وسط تغطية إعلامية واسعة وعلى أعلى المستويات، بينما لا يعمل منه اليوم سوى أقل من 10% فقط. وهذا القصور لا يعود إلى البنية التحتية، بل إلى غياب الجدول الزمني للتشغيل، وتغييب مؤشرات الأداء، وغياب خطة واضحة للموارد البشرية، وغياب لجنة متابعة محايدة، وغياب الربط بين نتائج التشغيل والتمويل والتقييم، وهكذا أصبح لدينا افتتاح جميل... وخدمة غير موجودة.

مقارنة عالمية: كيف تُفتتح المستشفيات حين تُدار باحتراف؟

في بريطانيا وسنغافورة، لا يمكن افتتاح أي مستشفى قبل جاهزية بنسبة 100% في كل من الكوادر، والأنظمة الرقمية، وسلسلة الإمداد والصيدلة، والمسارات السريرية Clinical Pathways، وخطة الجودة Patient Safety، والتدريب التشغيلي.

وفي السعودية، أصبح افتتاح أي مستشفى مرتبطاً بنتائج مستهدفة خلال الأشهر الستة الأولى تُتابَع مركزياً عبر مجلس الضمان الصحي ومكتب تحقيق الرؤية.

أما الإمارات فتعتمد على لوحات قياس لحظية ضمن الملفات التنفيذية تُعرض على القيادات ويُنشر جزءٌ منها للرأي العام.

مسار الإصلاح: كيف نجعل تقارير الأربعاء نقطة تحول؟

لكي تتحول تقارير الأربعاء إلى أداة إصلاح لا مجرد وسيلة عرض، يجب تحويلها إلى تقارير شهرية تحليلية، وإنشاء لجنة عليا مستقلة، وإلزام الوزارات بخطط استراتيجية واضحة، ونشر مؤشرات الأداء بشفافية، وربط الميزانيات بالنتائج، ومراقبة مشاريع الصحة عبر إدارة مستقلة، وتحويل وزارة الصحة تدريجياً إلى جهة تنظيم وليست جهة تشغيل، وإدخال الذكاء الاصطناعي في المتابعة وربط المستشفيات بلوحات قيادة موحدة.

خاتمة... تقدير لقيادة تبادر وتُصلح

الكويت اليوم أمام فرصة تاريخية لرفع مستوى الإدارة الحكومية، والتقارير —إذا أُديرت بعلمية وشفافية واستقلال— يمكن أن تكون نقطة التحول الكبرى. فالتحول يبدأ عندما ننتقل من «تقارير النشاط» إلى «تقارير الأثر»، ومن «افتتحنا» إلى «شغّلنا»، ومن «أعلنا» إلى «أنجزنا».

وفي هذا السياق، يُسجَّل لسمو رئيس مجلس الوزراء تبنّيه هذه الخطوة النوعية التي تُعيد الاعتبار للقياس والمتابعة، وتعزز روح الجدية في العمل التنفيذي. وبقدر ما تُدار هذه المبادرة بمهنية واستمرارية، فإنها قادرة على أن تشكل علامة فارقة في مسيرة الحكومة، وتفتح باباً لحقبة جديدة تتحدث فيها الأرقام بصدق، وتظهر فيها الإنجازات الحقيقية لا مظاهر الإنجاز.

 

 

back to top