بأيُّ ذنبٍ... الدَّم اليمني المسفوح؟!
قبل 15 عاماً كتبت مقالاً بعنوان «الموت صديق اليمنيين» نُشر في صحيفة الجمهورية الرَّسمية؛ ندَّدت فيه بجرائم القتل المتمثلة في الهجمات الإرهابية للتنظيمات المتشدِّدة، وحوادث التَّقطع والنَّهب والسَّلب؛ أما اليوم فالموت في هذا البلد تعدَّدت أشكاله وألوانه، وتنوَّعت أسبابه ودوافعه، بل وأصبح الدَّم اليمني مسفوحاً مُراقاً مُهرقاً كل يوم وكل ساعة وكل لحظة!وبالطَّبع فالأسباب عديدةٌ وكثيرة؛ بدءاً من عام 2011م عندما استخدم السِّياسيون والأحزاب اللاهثة على السُّلطة لمشاهد دماء جرحى وقتلى المظاهرات، والتي كانت تُصوَّر بطريقةٍ لها أهداف وأبعاد سياسية وبلا ضوابط أخلاقية، حينها بدأ كسر حاجز الرعب بل وبدأ تطبيع مشاهد العنف لدى المجتمع، والذي تطوَّر أكثر مع الحرب الأهلية المستمرة منذ (12) عاماً (2014 – 2025م)، وما نتج عنها من تبعات ومخرجات، أفرزت مجتمعاً مُتعطِّشاً للقتل والدِّماء لأيّ خصمٍ أو حتى مشبوه، لتظهر بعدها ظاهرة القتل الأُسري والذي تمثَّل في ابنٍ يقتل أباه أو أمه، وآخر يقتلهما معاً، وثالث يُضيف إليهما ثلاثةً أو أربعةً من إخوته وأخواته، بل ويتصل بأخيه المُتبقي يسأله عن مكانه، ويعلمه بما فعل، ويُهدِّده بأنه آتٍ للقضاء عليه هو الآخر! وانتهاءً بالقتل المأجور؛ وهذا هو أحدث موضات القتل في اليمن! ولكم أن تتخيلوا قاتلاً ومأجوراً يسرح ويمرح دونما رادعٍ من أخلاق، أو من دولةٍ أو من ضمير، بل وأصبح أولئك يُشكِّلون عصابات هي الحاكم الفعلي في بعض مناطق اليمن، وللأسف الشَّديد هذا ما أصبح عليه الحال في هذا البلد التَّعيس!
كان القتل فيما مضى يعدُّ حدثاً صادماً، يهزُّ المجتمع وتقشعر له الأبدان، يتناقل الناس واقعته من منطقة إلى أخرى، بكونه جُرماً كبيراً يندى له الجبين، فيندِّدون بقاتله ويشمئزون من أسرته، بل ويصل بهم الحال إلى مقاطعة كل من يمت له بصلة؛ أما اليوم فقد أصبح مشهداً متكرراً تتداول أخباره في نشرات القنوات الفضائية، ومنشورات مواقع التواصل الاجتماعي المتعدّدة والمُتلوِّنة، وتتضح دوافعه أنها سياسية فجَّة أو إيديولوجيات مُغرضة، أو تباين في الرَّأي، أو خلاف على قطعة أرض، وتعصبّ وحمية جاهلية، أو حتى مزاح ثقيل، أو مشادة لفظية... إلخ؛ فينتج عنها موتٌ مختلفٌ ألوانه، مرةً بالرِّصاص، وأخرى بالألغام، وثالثة بالقذائف، ورابعة بالغارات الجوية، وخامسة بالتعذيب في سجون أطراف الصِّـراع، وسادسة وسابعة وثامنة... وهلمُّ جرَّاً؛ فما الذي جعل الدَّم اليمني رخيصاً إلى هذا الحدِّ؟ وهل تحوَّلت ثقافة المجتمع من التَّسامح إلى التَّوحش؟
والإجابة هنا... تتمثل في أن المجتمع اليمني قد أُرهق بالعنف؛ فمنذ أزمة 2011م، ثم الحرب الأهلية في 2014م والمستمرة حتى الآن، وما بينهما يتبين الوجع والألم؛ حيث تشـرَّب اليمنيون مشاهد الدَّم المسفوح يومياً، كما أن الأطفال قد كبروا وشبُّوا وهم يشاهدون الجثث المُتناثرة، والدِّماء المُسالة، وأصوات الانفجارات التي تصكُّ مسامعهم بصورةٍ مستمرة؛ ليفقدوا الإحساس بالأمان، بل ويفقدوا الخوف من ارتكاب أي جريمةٍ والتي تصبح وسيلةً ربما للتَّفريغ أو الانتقام لأي سبب ولأتفه عذر!؛ فاقها جُرماً أيضاً تحوُّل مرتكبي الجرائم من الصِّفة الفردية إلى الجماعية (المُنظَّمة)؛ فظهرت شبكات تمارس القتل المأجور، والابتزاز، والنَّهب المُسلَّح، تتبع فلاناً أو عِلاناً من الشخصيات النَّافذة أو من الأحزاب والطَّوائف المُتصارعة، لغرض استخدام القتل كأداة نفوذ وسيطرة وإخضاع وملاحقة، وتشير تقارير محلية ودولية إلى ارتفاع معدلات الجريمة بنسبة تفوق (300%) خلال سنوات الحرب الملعونة؛ كانعكاس مباشر لحالة انهيار المنظومة الأمنية، وغياب الدَّولة الرَّادعة، وضعف القضاء، وانتشار السلاح – يُقدّر عدد قطعه في اليمن بـ 70 مليون قطعة– واكبه أيضاً اضطرابات نفسية ونزعات عُدوانية لدى الشَّباب كنتاج للفقر والبطالة الضائعين فيه؛ ليصبح مسلسل القتل والدِّماء المسفوحة في اليمن ظاهرةً اجتماعيةً خطيرةً تُهدد نسيج البلاد ومستقبلها، وما لم يُسترجَع للدَّولة هيبتها، وتُغرس ثقافة القانون بدلاً من ثقافة الثَّأر، سيبقى الدَّم اليمني يُسفك في الطُّرقات بلا حساب، وتستمر دوامة الموت بلا نهاية.