لبنان بين أهوال الجمود وأثمان الوعود
مرَّ أكثر من تسعة أشهر على تشكيل الحكومة الأولى للعهد اللبناني الجديد، برئاسة العماد جوزاف عون، الحريص على تحويل الوعود إلى واقعٍ ملموس.
ومع أن اللبنانيين استقبلوا العهد والحكومة بجُرعة من الأمل شبه جامع، لكن الواقع كشف أن طريق الإصلاح في لبنان لا يزال وعراً، وتحفّه تناقضات الداخل وضغوط الخارج.
ورغم قِصر عُمر الحكومة نسبياً، وكان الأمل معقوداً على اتخاذ خطوات جادة بغطاءٍ دولي وإقليمي، فإن القوى السياسية ألهت اللبنانيين بتجاذبات مرحلية، كان آخرها النقاش البيزنطي حول قانون الانتخاب، المتفق عليه- كما العادة- في الكواليس. نتيجة ذلك، تفاقمت الأزمة المعيشية، واستمر الشلل الإداري، وبقيت الكهرباء والرواتب والخدمات في دائرة العجز، فيما تحوَّلت القضايا اليومية إلى ملفات سيادية تهدِّد تماسك الدولة والأمن الاجتماعي الهشّ.
لا يرتبط كل ذلك فقط بترهُّل المؤسسات الحكومية وضعف الأداء، بل يُعيد التذكير بهشاشة النظام السياسي والبنية الدستورية، إضافة إلى الانقسام الطائفي والتجاذب الشعبوي الذي يعوق أي مسارٍ إصلاحي جاد، رغم محاولات الحكومة المتكررة لترميم الثقة عبر إجراءات محدودة الأثر.
على المستوى الأوسع، يجد لبنان نفسه عالقاً بين مطرقة الداخل وسندان الخارج، إذ يربط صندوق النقد والدول المانحة أي دعم بإصلاحات مؤجلة، وخطوات جدية نحو الشفافية واستقلال القضاء. وفي المقابل، يظل القرار الوطني محكوماً بتوازنات إقليمية دقيقة، بين نفوذ إيران عبر حزب الله، وضغوط غربية وعربية من منطلق الاستقرار الإقليمي.
وفي خضم هذا المشهد الملتبس، تتسارع التطورات في المنطقة، لا سيما على الخط الإسرائيلي-العربي، برعاية أميركية، بما يُعيد رسم خريطة التحالفات وموازين القوى. ويبرز الحدث التاريخي باستقبال البيت الأبيض للشرع كأول رئيس سوري، في مؤشر على تحوُّل النهج الأميركي في مقاربة ملفات الشرق الأوسط، وانعكاساته المباشرة على لبنان.
ورغم الجهود الواضحة من معظم الأطراف اللبنانية لتجنب توسيع الشرخ السياسي والاجتماعي، تبقى مفاتيح الإصلاح معلَّقة، إذ لم تُقر الخطة المالية بعد، والسرية المصرفية لا تزال مثار جدل، والمفاوضات مع صندوق النقد تدور في حلقة من الشروط والتأجيل، فيما يعيش الجنوب على حافة التوتر والحرب المحتملة. كما أن أزمة النزوح واللجوء ما زالت تضغط سياسياً وإنسانياً، فيما يبقى الاستقرار رهين الإرادة الخارجية والموقف من السلاح غير الخاضع لسيطرة الدولة.
وعلى الأرض، يظهر أن المناكفات السياسية والطائفية تمنع إقرار قوانين مهمة، مثل: الموازنة والخطط المالية، وتعطُّل تنفيذ إصلاحات قضائية وإدارية لازمة وضرورية. في الوقت نفسه، ما زال المُواطن يدفع فواتير باهظة من جيبه ومن مخزون إيمانه بوجود دولة مستقلة وراعية لمواطنيها.
ومع كل هذه التعقيدات المتشابكة، لا يمكن للبنان الرسمي والشعبي أن يستسلم للفشل. فالنتيجة المرجوّة تبقى رهينة خطوات حاسمة، تبدأ باستشعار اللبناني لأهمية المواطنة، ودلالاتها الحقيقية، وقناعة القادة والمسؤولين بسرعة التحوُّل من منطق الزعامة إلى دولة المؤسسات، وتوجيه كل الطاقات نحو إصلاحٍ حقيقي يرتكز على الشفافية والمُحاسبة.
الوقت يضيق، والمسافة بين النوايا والإنجاز تتسع. وما لم يتحوَّل الميدان السياسي إلى تحالفٍ وطني عابر للطوائف يؤمن بدولة مدنية قوية، جامعة، وقادرة على التنمية المتوازنة، سيبقى لبنان في عين العاصفة، عالقاً بين سيادة مُعلَّقة وإصلاح مؤجَّل، ومحاصراً بين أهوال الجمود وأثمان الوعود، متوجساً من اشتعال الحدود.