اختيارات المثقف الكويتي
المثقف الكويتي يعيش اليوم أزمة مركّبة تتجاوز حدود الفكر إلى عمق الموقف، أزمة تكشف هشاشة العلاقة بين الوعي والواقع، بين الأيديولوجيا والمصلحة، وبين الشجاعة والخوف، فالمشهد الثقافي في الكويت لم يعد كما كان في زمنٍ كان به المثقف في قلب المجتمع، يقود الوعي، ويصوغ الموقف، ويتحمل كلفة رأيه. اليوم، تحوّل كثير من المثقفين إلى متفرجين في مسرح الواقع، يكتفون بالتعليق من بعيد، ويتقنون لغة التحليل البارد، بينما الشارع يغلي والأسئلة تتكاثر بلا إجابة. لقد تحوّل جزء من النخبة الثقافية إلى ما يمكن تسميته ب«المثقف المروّض»، الذي يعرف حدود المسموح والممنوع، ويتقن الرقص في المساحة الرمادية بين السلطة والجمهور.
المثقف الذي يكتب عن الحرية بشرط ألا تمسّ مقالاته أحداً، وينادي بالديموقراطية بشرط ألا تخرج من النص إلى الفعل. هذا النموذج لم يولد صدفة، بل صُنع بعناية على مدار العقود الماضية، حين تمّ استبدال المثقف المتمرّد بالمثقف المطيع، والمثقف العضوي بالمثقف الممول، والمفكر بالمستشار الإعلامي.
البرج العاجي الذي يسكنه المثقف الكويتي ليس فقط انعزالاً عن الناس، بل انتماء غير واضح المعالم، فهو يعيش رفاهية الفكر داخل مقالات لا تُغضب أحداً، وندواتٍ مغلقةٍ تكرر الكلام ذاته عن الإصلاح والنهضة دون أن تلامس عمق الأزمة. كثير منهم يتحدث عن العدالة في منابر تمويلها «عليه كلام» ويناقش الفساد في قاعاتٍ مكيّفةٍ بعيدة عن رائحة العرق الشعبي. يتبجح بالموضوعية والاتزان، لكنه يمارس الحياد في وجه الظلم، ويختبئ خلف التحليل ليبرّر صمته.
الأيديولوجيا في الكويت تحوّلت إلى قيدٍ فكري، لا إطارٍ للتحرّر. الليبرالية تصالحت مع السلطة واكتفت بمقاعد الندوات، الإسلام السياسي انغلق على ذاته وأرهق الدين بالشعارات، اليسار انهزم أمام موجة البراغماتية، والوطني تاه بين الخوف من الإقصاء والرغبة في البقاء. كل تيار أراد مثقفه الخاص، لا المثقف الحرّ، فصار الولاء أهم من الفكرة، والاصطفاف أهم من المبدأ. ومع هذا التمزّق، ضاعت البوصلة الفكرية، وصار المثقف، الذي يُفترض أن يكون ضمير الأمة، جزءاً من آلة التبرير والتجميل. المثقف الحقيقي لا يعيش في برجٍ من زجاج، ولا يكتب من وراء المكاتب، بل ينزل إلى الميدان، يتّسخ بالواقع، ويكتب من نبض الناس.
الثقافة ليست ترفاً ولا زينة اجتماعية، بل فعل مقاومة، وموقف أخلاقي. المثقف الذي يخاف من الكلمة يفقد روحه، والذي يساوم على الحقيقة يتحوّل إلى شاهد زور على زمنٍ ينهار فيه كل شيء. الكويت لا تحتاج إلى مزيد من التنظير، بل إلى مثقفٍ يجرؤ على قول ما يجب أن يُقال، مهما كانت الكلفة. فحين يصبح المثقف جزءاً من لعبة التوازن السياسي، يفقد صفته كمثقف ويصير موظفاً في النظام، وحين يختبئ خلف الحياد، يتحوّل إلى خائنٍ للوعي. التاريخ لا يذكر أولئك الذين كتبوا بحذر، بل الذين واجهوا بصدق، والذين حين سُئلوا عن الحق، قالوه بصوتٍ عالٍ دون أن ينتظروا تصفيقاً أو مكافأة.