في زمن حُرية المعلومات... مَنْ يملك «الرواية»؟

نشر في 16-11-2025
آخر تحديث 15-11-2025 | 21:02
 إبراهيم حامد العاسمي

لعله من المدهش أن نشهد خلال فترة وجيزة من التاريخ كل هذا التطوُّر التكنولوجي الذي أحدث ثورة هزَّت كل مفاهيمنا عن الدقة والسرعة والزمن، بعد أن تجاوزنا عصر الهواتف الذكية إلى الإنترنت الفضائي، والذكاء الاصطناعي التوليدي، ومجرات من المنصات التي تصوغ وعينا الجمعي.

في الماضي، كانت الدول تملك مفاتيح البنية التحتية للاتصال والمعلومات، وتتحكَّم في المنافذ الأرضية للإنترنت، فتقرر ما يُعرض وما يُحجب. لكن ما نعيشه اليوم، هو تحوُّل عميق يحدث من خلال إنشاء بنية اتصالية فضائية عابرة للحدود، تقودها شبكات مثل «ستار لينك»، وشركات أخرى تنشر آلاف الأقمار الاصطناعية التي تُغلف الكوكب بشبكة لا يمكن اعتراض دفق المعلومات التي تبثها.

هذا التحوُّل يعني عملياً أن السيادة الرقمية لم تعد حصرية بيد الحكومات، فظهور الشبكة الفضائية شبه المستقلة، يتحدَّى فكرة السيطرة المركزية. وهنا لا بد أن تُطرح أسئلة جديدة: مَنْ يضع القواعد؟ مَنْ يُحدِّد المسموح والممنوع؟ ومَنْ يقرر أين تنتهي حُرية المعلومة وتبدأ مسؤولية الحقيقة؟ ويبرز السؤال الأهم: هل ننتقل فعلاً من رقابة الدولة إلى حُرية مطلقة؟ أم أننا نستبدل سُلطة الدولة بسُلطة الشركات العملاقة، التي تمتلك الخوادم والبروتوكولات ونماذج الذكاء الاصطناعي؟ وهل سيغدو الرؤساء التنفيذيون لشركات الاتصالات الفضائية وشركات البرمجيات والذكاء الاصطناعي هم قادة العالم الجُدد الذين يصوغون وعي الجماهير، ويلقنونها بما يشاؤون، بما يناسب رؤاهم ومصالحهم؟

لا شك في أن مَنْ يمتلك الشفرة البرمجية سيقرر ماهية «الحقيقة» الجديدة، ومَنْ يُصمم الخوارزمية سيرسم خرائط الوعي الجمعي. إنها لحظة تاريخية تنتقل فيها السُّلطة من القانون إلى البرمجيات، ومن الدساتير إلى الأكواد.

اليوم تتجاذب السيطرة على الرواية العالمية ثلاث قوى متشابكة، والصراع بينها حتمي، أولاها الشركات والمنصات التكنولوجية، مثل: غوغل، ميتا، إكس (تويتر سابقاً)، التي تمتلك قدرة توجيه المحتوى عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وثانيها الدول والحكومات التي تسعى إلى استعادة نفوذها عبر التشريعات، والرقابة الرقمية، ومراكز مكافحة المعلومات المضللة. أما القوة الثالثة، فهي المجتمعات المدنية والمستخدمون المستقلون الذين يستخدمون أدوات لامركزية ومنصات مفتوحة المصدر لبث روايات بديلة.

يمكن القول إن كل هذه التحوُّلات لم تغيِّر فقط أدواتنا، بل أعادت تعريف السُّلطة والمعرفة والحقيقة، وإن الإنسان لم يعد هو المصدر الوحيد لإنتاج المعرفة، بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً في إنتاجها، وإعادة صياغتها، وطرح تفسيره لأحداث العالم، لكنّ الخطر يكمن في أن هذه الشراكة قد تتحوَّل إلى تبعية، فكل خوارزمية تحمل في طيّاتها رؤية مبرمجها، وتفضيلاته، وأهدافه وانحيازاته، فهل يمكن أن نتحدَّث بعد الآن عن حقيقة موضوعية؟

في زمنٍ ما بعد «الدولة القومية الرقمية»، تُصبح السُّلطة الحقيقية هي سُلطة التفسير، ومَنْ يملك الأدوات القادرة على تحويل المعلومة إلى معنى هو مَنْ يملك الرواية.

قد لا نستطيع إيقاف هذا التحوُّل، لكن أضعف الإيمان أن نطالب بأخلاقيات رقمية تحرس كرامة الإنسان في فضاء ما بعد السيادة.

الحُرية في القرن القادم لن تُقاس بحُرية الوصول للمعلومة، بل بقدرتنا على الشك والسؤال والمراجعة، ففي عالمٍ صاخب بضجيج البيانات، يُصبح التفكير النقدي هو السلاح الأخير ضد السُّلطة الشمولية الجديدة، المتمثلة في الخوارزمية.

بين الحلم بالفكر الحُر والقلق من «السُّلطة الشمولية الرقمية»، سنكتشف أن حُرية المعلومات لم تعد غاية في ذاتها، بل معركة مستمرة في البحث عن الحقيقة، ومَنْ يكتب الرواية، ومَنْ يوقّع تحت سطرها الأخير.

* كاتب سوري مقيم في كندا

back to top